لعلّ أكثر ما يفتقده لبنان في هذه الظروف بالذات ويحتاجه في آن، هو التمويل. ففي ظلّ الانهيار الحرّ، وأمام هول تصاعد الأعمال الحربية الإسرائيلية على جنوب لبنان "تجمّد" الاقتصاد. وما من شيء أقدر على "إذابة ثلجه" وإعادته إلى الحياة سوى وجود أسواق مالية قادرة وموثوقة.

"تكمن أهمية السوق المالية بتأمينها تمويلاً متوسّطاً وطويل الأجل ومنخفض التكلفة، بالمقارنة مع التمويل المصرفي"، يقول الخبير الاقتصادي وعضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي الدكتور أنيس بودياب. "وقد بني على إنشاء هيئة الأسواق المالية في العام 2011، والورشة الإصلاحية التي رافقت وضع مراسيمها التطبيقية الكثير من الآمال قبل وقوع الانهيار. إذ كان العمل منصبّ على إطلاق العملة الرقمية في حزيران من العام 2019. إلّا أنّ هذه الخطوة تعثّرت ولم تصطلح لغاية اليوم". وبرأي بودياب فإنّ هناك مجموعة واسعة من المعوقات التي حالت دون توسّع السّوق المالية حتّى قبل الانهيار. وهي تحتاج إلى مقاربة جديدة فيما لو أردنا إعادة تفعيلها. ومن أبرز المعوقات التي يجب معالجتها:

المشاكل التي تواجه تفعيل السّوق المالية في لبنان:

- تعتبر الهيئة النّاظمة للأسواق المالية أو هيئة الأسواق المالية مؤسسة عامّة أو شكل من أشكال المؤسسات العامّة، التي تبقي أبوابها مشرّعة للتدخّل السياسي في كلّ شاردة وواردة. وما من خلاص إلّا بتحريرها عبر إدخال الشّراكة بين القطاعين العام والخاص، لإنجاح عمل هذه المؤسسة الذي يعتبر وجودها أكثر من ضرورة سابقاً حاضراً ولاحقاً. إذ لو قدّر للبنان أن يكون لديه سوق ماليّة ناشطة وبورصة موثوقة قبل العام 2019، لربّما كنّا تجنّبنا العديد من الأزمات النقدية الموجودة في القطاع المصرفي. ولربّما لم تكن الودائع أيضاً لتذهب سدىً. وكان جزء منها على الأقلّ ذهب للاستثمار في الأسهم والسندات.

- انعدام ثقة القطاع الخاص، الذي يتألّف بأغلبية 97 في المئة من هيكلية عائلية، بهيئة الأسواق المالية، حرم الاقتصاد اللبناني من فرصة تمويل جديّة وحقيقية. ذلك أنّ تفريغ هذه المؤسسات إلى أسهم وإطلاقها داخل البورصة يحتاج إلى ثقة كبيرة، لكون المؤسّسات العائلية قائمة على الثقة بين أفرادها وترابط الدم والأخوّة. وعليه فإنّ الذهاب إلى السّوق الماليّة يحتاج إلى ثقة بالسّوق والهيئة الناظمة له. والثّقة ليست شعاراً، إنّما مجموعة القوانين. ففي نهاية المطاف إذا لم يكن هناك قانون أو قضاء يحمي المستثمر يحجم عن الاستثمار ويبقي محصوراً في إطار شركته العائلية الضيّقة، ويموّل مشروعه بالدّين والقروض ويدخّر في خزنته.

- كلفة البورصة المرتفعة. إذ إنّ كلفة الدخول في البورصة والتسجيل فيها قبل العام 2019 أي قبل انهيار الليرة اللبنانية وسعر الصّرف، كانت مرتفعة جدّاً بالمقارنة مع البورصات في المنطقة.

- عدم الترابط مع البورصات الإقليمية والدولية، وانحسار الشركات المدرّجة بالبورصة ببعض البنوك والشركات المحلّية من دون أي وجود لشركات دولية. وهو الأمر الذي يحرم البورصة من فرص التطوّر، ويجعلها محصورة باقتصاد حجمه 17 مليار دولار.

وعليه إذا أردنا تلخيص الحلول لإعادة تفعيل السّوق المالية في لبنان يجب تأمين: استقلالية القضاء، تفعيل الشراكة بين القطاعين العام والخاص، إطلاق البورصة محلّيّاً ودولياً، إعادة النّظر بالتكاليف، وضع الخلافات السياسية جانباً.

منعاً لهدم "الهيئة"

على الرّغم من كلّ المشاكل المفتعلة داخل أروقة هيئة الأسواق الماليّة فإنّ "الظروف الاقتصادية في البلد لا تسمح لها بممارسة عملها بفعاليّة كما كانت عليه قبل نشوب الأزمة الاقتصادية"، يقول عضو مجلس الإدارة التنفيذي السّابق في هيئة الأسواق الماليّة في لبنان سامي صليبا. "وهذ يعود لتراجع نشاط القطاع المصرفي الذي كان يعمل في الأسواق المالية، وتراجع نشاط بقيّة الشركات الخاصة المدرجة". ولكنّ هذا "لا يعني بأيّ شكل من الأشكال وجوب إقفالها كما توارد إلى سمعنا"، يضيف صليبا. "لأنّ المجهود الذي بذل لإنشاء الهيئة، والتفاهمات التي أبرمت مع عشرات الدول، والدخول في المنظّمة الدولية لهيئات الأوراق المالية "الآيوسكو"، ستذهب سدى نتيجة الظروف الخارجة عن الإرادة. وسنعود بعد التعافي لنبني كلّ ما هدمناه في وقت الأزمة. وعليه من المفترض المحافظة على عمل الهيئة، ولو بـ "التي هي أحسن"، إلى حين تخطّي الظّروف الصّعبة التي يمرّ بها البلد.

ضرورة استكمال قانون الهيئة

المشكلة من وجهة نظر صليبا تكمن في عدم تطبيق القانون الخاص بهيئة الأسواق الماليّة. وعدم استكمال المشاريع التي كان يعمل عليها، ومنها على سبيل الذكر: مشروع إطلاق بورصة رديفة لبورصة بيروت، وإنشاء منصّة ألكترونية تشمل كلّ أنواع الأوراق المالية والعملات.

مصادر التمويل

عادة ما يتمّ تمويل الهيئات المشرّفة على الأسواق المالية من مصدرين: الاشتراكات والغرامات. و"هذان المصدران تعطّلا في لبنان"، برأي صليبا. "الأول نتيجة الأزمة وتقلّص حجم الشركات وتعدّد أسعار الصرف. والثّاني بسبب عدم استكمال قانون الهيئة وإنشاء لجنة العقوبات والمحكمة الخاصّة بالأسواق المالية. فالخلافات المالية اليوم تحال إلى القضاء المدني أو الجزائي وتقبع لسنوات من دون أن تحلّ ما يحرم الهيئة من مصدر جدّي للتمويل. في حين أنّ قانون الهيئة كان ينصّ أنّه على المحكمة أن تصدر القرار خلال مدّة حدّها الأقصى 180 يوماً". وبرأي صليبا "لو تمّ تفعيل لجنة العقوبات والمحكمة في الأعوام الأولى على إنشاء الهيئة، لكنّا وفّرنا على الهيئة وعلى البلد الكثير من المشاكل".

مرّة جديدة يدفع الاقتصاد اللبناني وقطاعه الخاص ثمن الخلافات السياسية، وعدم استكمال وضع المراسيم التطبيقية للقوانين. الأمر الذي لا يعيق فرص النمو فحسب، إنّما يؤخّر التعافي ويجعل من بناء ما تهدّم أمراً شاقاً ومكلفاً... هذا إن لم يكن مستحيلاً. وبحسب الخبراء فإنّه يجب اليوم قبل الغد تعديل قانون الهيئة وإدخال القطاع الخاص في بنيتها عبر قانون الشراكة وتخليصها من التدخّل السياسي، من أجل انتشال الأسواق المالية من الانهيار.