في الوقت الذي تلتهب فيه فلسطين المحتلّة بالحمم النارية، "تعسّ" الأزمات في لبنان المنهار، تحت رماد البركان الإسرائيلي المتطاير صوبنا. وبدلاً من تحصين الوضع الداخلي، والعمل على جذب الاستثمارات وإعادة تفعيل دورة التمويل للمؤسسات الرازحة تحت الضغوطات، "تتعملق" الخلافات في المؤسّسات الموكل إليها مهام التّنظيم والتّحفيز.
عقب نشر موقع "الصفا نيوز" مقال: "خلافات "تفجّر" هيئة الأسواق المالية من الداخل والأزمة المالية تضغط عليها من الخارج"، توالت الاتصالات المستوضحة. أحد المستثمرين اتّصل ليستفسر إن كان المقال عن حالته تحديداً! ومع من شركائه تواصلنا للحصول على المعلومات؟ لينصدم بالجواب: أنّ الحالات المذكورة لا تخصّه لا من قريب أو بعيد. وأنّ ملفات أخرى كثيرة تنتظر منذ أشهر طويلة البتّ بطلباتها العالقة.
الخلافات تنسحب على الموظفين
هيئة الأسواق المالية التي أوجدها القانون 161/2011 بهدف إعادة إطلاق دور لبنان كمركز مالي، وتوفير التمويل المتوسط والطويل المدى للدولة والشركات، "تقمّصت" لبنان المنقسم عامودياً على نفسه. وعلى الرّغم من أنّ كلّ الأطراف ممثّلة داخل الهيئة، ومستحصلة على حصّتها، و"زيادة"، من التعيينات، فإنّ "الخلافات لم تعد مقتصرة على أعضاء مجلس الإدارة، وتحديداً منهم الخبراء، إنّما انسحبت على الموظّفين المقدّر عددهم باثنين وخمسين موظفاً"، يقول مصدر متابع. فانقسم الموظفون داخل الهيئة إلى جبهتين متناقضين "سياسياً"، لا يعطّلون مصالح الشركات ومقدّمي الطلبات فقط، إنّما يعرقلون سير العمل الإداري داخل الهيئة. الأمر الذي ينعكس تأخيراً في صرف الرواتب، وشلل في مختلف المديريات داخل الهيئة، وتقديم استقالات. والأخطر أنّ الخلافات التي "تفجّرت" منذ مطلع العام الحالي، وخرجت على العلن، لم تعد محصورة في ما بين أعضاء مجلس الإدارة والموظّفين، إنّما انتقلت إلى خلافهم مع حاكم المصرف المركزي بصفته رئيسا للهيئة".
عرقلة إدارية
أمام هذا الواقع، تُعلّق طلبات الترخيص للشركات المالية الجديدة بين خطوط تماس الإدارات داخل الهيئة. فإذا خرج الملفّ من الدائرة القانونية، يعلق بوحدة الرقابة المالية FCU، وإذا خرج من الأخيرة، لا يعرض في اجتماع مجلس الإدارة الذي يعقد برئاسة الحاكم كلّ أسبوعين مرّة. وعلى هذا المنوال تتعطّل عشرات الملفّات، ويفقد المستثمرون الأمل بإمكانية العمل في لبنان.
ما "زاد الطّين" إهمال الهيئة القيام بدورها، سواء على صعيد الترخيص أو الرقابة على الأسواق "بلّة"، كان فقدان مصدر التمويل الاساسي المتأتّي من شركة "لبنان الجديد"، وتراجع قيمة الرسوم والاشتراكات على الشركات. وبالتالي انهيار الرواتب وفقدانها لقيمتها الشرائية على غرار رواتب كلّ موظّفي القطاع العام. إلّا أنّ الفرق بين هيئة الأسواق المالية، وبقيّة المؤسسات العامة، هي قدرتها الفريدة على تمويل نفسها بنفسها. وذلك من خلال إصدار قرار جديد برفع قيمة الاشتراكات ونسبة الأرباح المقتطعة من نحو 70 شركة مالية مرخصة"، يقول المصدر. "إلّا أنّ ما يعوق اعتماد سياسات فعالة للتمويل، هو المناكفات التي لم تدع للصلح مطرح". أكثر من ذلك "هناك خلاف شخصي مع الأمينة العامة للهيئة. فبعض أعضاء مجلس الإدارة من الخبراء يعتبرون أنّ لهم الحّق بالتواصل المباشر مع رئيس الهيئة، أي الحاكم، فيما تصرّ الامينة العامّة على المرور عبرها. وعليه لم يعد أحد قادراً على التواصل مع أحد في الهيئة".
إزالة العوائق التمويلية
النقص في التمويل يجب ألاّ يشكّل من الناحية العملية، عائقاً أمام تفعيل دور هيئة الأسواق المالية. فهي على غرار مختلف الهيئات الناظمة مطلوبة من صندوق النّقد الدولي وتعتبر من الشروط الإصلاحية الأساسية. ويعتبر دور "الهيئة" محوري في ظلّ انهيار القطاع المصرفي وفقدان الشركات والمؤسسات مصادر التّمويل التي كانت تتأتّى من القروض. وتقوم طريقة التّمويل الحديثة على إصدار الشركات الأسهم لتمويل نفسها. ومع تحقيقها الأرباح، ترتفع قيمة أسهمها وتزداد عوائد حملة الأسهم. و"هذا هو الاتّجاه الذي كان يعمل على تفعيله"، بحسب مدير الأبحاث والإعلام لدى هيئة الأسواق المالية طارق ذبيان. إذ كانت الجهود منصبّة على تهيئة الأرضية من الناحية القانونية، والتحضير لإطلاق منصّة التداول الإلكتروني. بيد أنّ كلّ هذه المشاريع توقّفت مع بدء الانهيار الذي أثّر على القطاع المالي بشكل عام، وعلى عمل الهيئة بشكل خاص. هذا عدا طبعاً عن الضبابية التي يخلقها الجو العام، وحالة عدم اليقين حول كيفية تطوّر الأوضاع المالية والاقتصادية والنقدية في لبنان". وعليه "قبل توحيد سعر الصّرف، والدّخول في اتفاق مع صندوق النقد الدولي، فإنّ المستثمرين سيبقون قلقين من إصدار الأسهم والتداول بها". وعلى سبيل المثال فإنّ الأسهم في البورصة اليوم تتداول بـ 1/10 من قيمتها الحقيقية بالدولار الأميركي. والسّهم الذي يعود لإحدى أكبر الشركات المدرجة الذي يتداول بـ 77 إلى 80 دولاراً، لا تتجاوز قيمته الفعلية 8 دولارات. وهنا يسأل ذبيان "هل نشجّع الشركات على إصدار الأسهم، ونعود بعد إتمام الإصلاحات لإجراء "هيركات" عليها؟ من هنا فإنّ ضمان الاستقرارين النقدي والمالي هو أساسي لأيّ عمليّة تحفيزية لتفعيل الأسواق المالية وجعلها الممر الأساسي لتمويل القطاعين العام والخاص".
"الصعوبات التي تعتري عمليات إصدار الأسهم يجب ألّا تشكّل عائقاً أمام قيام الهيئة بدورها لجهة رقابة الأسواق"، بحسب المصدر. ذلك أنّ "المماطلة بإعطاء ترخيص مباشرة العمل، وغياب وجود الهيئة في الأسواق يدفع بعض الشركات للعمل بطريقة مخالفة. الأمر الذي يعرّض مصالح مئات المواطنين للانتهاك، ويحرمهم من مظلّة الحماية التي يوفّرها وجود هيئة ناظمة رقابية مخوّلة المتابعة والمحاسبة. ويفتح من الجهة الثانية المجال واسعاً أمام عمليّات تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. ويعرّض لبنان إلى المزيد من المشاكل؛ وفي مقدّمتها وضعه على إحدى القائمتين الرمادية أو السوداء لمجموعة العمل المالي.
نتابع يوم الثلاثاء المقبل الجزء الأخير عن البدائل المطروحة لتفعيل عمل هيئة الأسواق المالية.