الخلل المستجدّ في العلاقة بين مكوّنات مجلس الإدارة يعرّض أصحاب الشركات والمتداولين إلى خسائر قد تصل إلى ملايين الدولارات...
وفي "الليلة الظلماء" لتعطّل القطاع المصرفي، افتقد "بدر" هيئة الأسواق المالية (CMA) فهذا "القمر" الذي هلّ على لبنان صيف 2011، قبل أن يُلمح في أكثر البلدان المجاورة تطوراً من الناحية الماليّة، حجبته الخلافات السياسية داخل مجلس الهيئة وأمانتها العامّة، وفقدان وحداتها للآليات التنفيذية. فـ "النكايات" السياسية "تسلّلت" إلى عمل الهيئة وعطّلتها، بحسب ما يروي متابعون، إلى درجة صحّ فيها قول أحد الظرفاء، على مضض، "لا بيرخّصوا، ولا بيراقبوا الأسواق، ولا بيحيدوا من درب المستثمرين". ولم يكن ينقص "الهيئة" المعطّلة نسبياً منذ نشأتها، إلّا "فقر" الانهيار ليجّر على مكوّناتها المزيد من "النّقار".
ثلاثة أحداث تدلّ على عمق الأزمة التي تتخبّط بها هيئة الأسواق المالية في لبنان:
الأول، عدم البتّ بعشرات الملفّات "المستوفية كلّ الشروط"، بحسب ما يفيد أصحابها، لشركات تعتزم الاستثمار في مجال الاستشارات، وسمسرة الأسهم والسندات، والتداول، والتعامل في البورصة إادارة الثروات وصناديق الاستثمار.
الثاني، غيابها التّام عن مراقبة وضبط الأسواق. حيث كاد خلاف مع شركة تداول مشهورة وغير مرخصة في منطقة سن الفيل تعود إلى المدعو (إ.س) أن يتحول إلى مجزرة. وذلك بعد اقتحام مسلّحين مكتب بورصة مخالف، للمطالبة بخسائر سجّلت على حساب أحد المتداولين عبره.
الثالث، ميل حاكم مصرف لبنان بالإنابة لإقفال الهيئة وذلك بصفته الرئيس الأعلى لها. بعدما لم تعد تجلب إلّا "وجعة الرأس"، نظراً لتعمّق الخلافات بين أعضائها وصولاً حدّ التضارب، ولغياب القدرة على الاستمرار بتمويلها.
نتائج التعطيل
يتألّف مجلس هيئة الأسواق المالية من الناحية الإدارية من سبعة أعضاء، أربعة منهم يعيّنون تلقائياً نظراً لموقعهم الوظيفي، وهم: حاكم المصرف المركزي رئيساً، والمديرين العامّين للاقتصاد والمالية، ورئيس لجنة الرقابة على المصارف. والثلاثة المتبقّون هم من الخبراء. الأول خبير في الشؤون المصرفية تقترحه جمعية المصارف، والثاني خبير في شؤون الأسواق المالية تقترحه بورصة بيروت، والثالث خبير في الشؤون المالية يقترحه وزير المالية. ويتمّ تعيينهم بمرسوم يتّخذ في مجلس الوزراء بناءً على اقتراح وزير المالية لمدّة خمس سنوات، قابلة للتجديد لمرّة واحدة. وينقل معنيون أنّ "خلافات جوهرية تحكم علاقات أعضاء مجلس الإدارة، وتؤدّي إلى تعطيل البت ّبالكثير من القضايا الرئيسية، وإهمال طلبات الترخيص والمراقبة". ما ويؤدي إلى إبعاد المستثمرين، أو دفعهم للعمل خارج الأطر التنظيمية والقانونية.
الخلل المستجدّ في العلاقة بين مكوّنات مجلس الإدارة يعرّض أصحاب الشركات والمتداولين إلى خسائر قد تصل إلى ملايين الدولارات. فمن جهة المستثمرين، تبلغ كلفة تقديم ملفّ أمام هيئة الأسواق المالية حوالي 100 ألف دولار. وهي تنقسم بحسب أحد مقدمي الطلبات إلى: شراء نظام التداول، وإبرام عقد مع شركة معلوماتية IT، ومكتب تدقيق حسابات، وشركة متخصّصة لوضع خطة العمل، وصياغة السياسات والإجراءات المطلوبة، ومكتب محاماة لتحضير النّظام والعقد وباقي الأوراق القانونية للشركة، واستئجار مكاتب، وتوظيف اختصاصيين، وتدريبهم في إحدى الجامعات المتخصّصة وإخضاعهم للامتحانات بتكلفة باهظة... كلّ هذا قبل تقديم طلب الترخيص! "وأمام عدم بروز أي إشارات إيجابية على البتّ بطلبنا من هيئة الأسواق الماليّة لأكثر من عام، بدأنا ندرس جدياً خيار بدء العمل دون ترخيص أو شراء ترخيص عن الانترنت من إحدى الجزر الناشئة للتمكّن من امتلاك السيستم وتغطية مكتبنا تجاه السلطات الأمنية المتخصّصة، وطمأنة المستثمرين لدينا، أو حتّى الانتقال إلى قبرص أو دبي حيث يمكن الاستحصال على الترخيص دون تعقيدات ومحسوبيات، وبمجرد استكمال الملفّ، واستيفائه للشروط الموضوعة من قبل الهيئات الناظمة في تلك الدول. وذلك كوننا نتكبّد التكاليف من دون تحقيق أيّ إيرادات". أمّا من جهة المتداولين الذي يوظفون أموالهم مع واحد أو أكثر من مكاتب التداول غير الشرعية الكثيرة، فإنّهم مجرّدون من أيّ حماية ومعرّضون للغشّ وعمليات الاحتيال من دون أن يكون لديهم أبسط قدرة على محاسبة المحتالين".
عدم إنشاء المحكمة الخاصة بالهيئة
من الناحية النظرية نصّ قانون هيئة الأسواق المالية على ضرورة إنشاء لجنة تفتيش تعرف بلجنة العقوبات، ومحكمة خاصّة. أمّا من الناحية التطبيقية فإنّ "هيئة الأسواق المالية لا تمتلك القدرة على رصد وملاحقة كلّ البورصات غير المرخصة، إلّا في حال تقديم شكوى بحقّها أمام الهيئة"، يقول مدير الأبحاث والاعلام لدى هيئة الأسواق المالية طارق ذبيان. "عندها تنجز الهيئة التحقيق، وتحيل المخالفين إلى أحد القضاءين المدني أو الجزائي". وهذه الآلية التي تتطلب الكثير من الوقت وتنقصها الفعالية لا بديل آخر عنها في الوقت الحالي، بسبب عدم إنشاء المحكمة الخاصّة بالهيئة الواردة في القانون لغاية اليوم".
الأزمة تفرّغ الهيئة من كوادرها
عامل آخر لم يكن في الحسبان تمثّل بحسب المعلومات بشغور منصب رئيس وحدة الرقابة على الأسواق المالية، التي تعتبر واحدة من أهمّ الوحدات في الهيئة. وذلك بعد ترك المدير خليل غلايني منصبه وسفره خارج البلاد. وهو الأمر الذي لا ينفيه ذبيان إذ يؤكّد خسارة كوادر أساسية في الهيئة. "فعلى غرار مختلف مؤسسات القطاع العام نواجه مشكلة في التمويل، ونعجز عن الإبقاء على كادرات مؤهّلة وذات كفاءة عالية جداً في ظلّ انهيار الرواتب وخسارتها بالليرة معظم قيمتها. ومن هذا المنظور يمكن أن تكون الأمور ذاهبة إلى مكان لا تحمد عقباه".
ملفّات عالقة؟
حتّى نهاية ولاية حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة مطلع آب الماضي كان مجلس إدارة هيئة الأسواق المالية يعقد اجتماعات دورية كلّ أسبوعين ويبتّ بجميع الطلبات. وعليه ينفي ذبيان أن تكون هناك ملفّات عالقة تعود إلى أعوام خلت غير مبتوت بها. وبرأيه فإنّ الملفّات غير المصادق عليها تكون منقوصة، أو بانتظار استكمال بعض النقاط المطلوبة أو حتّى فحوصات مشروطة. إنّما من الجهة المقابلة يؤكّد أحد مقدمي طلبات الترخيص أنّ الملف المقدّم من قبله "مكتمل بشهادة موظّفي الهيئة، ولم يعد ينقصه شيء، ولا يبتّ به بسبب استحكام الخلافات بين الخبراء الثلاثة الذين يشكّلون عنصر ثقل أساسي داخل مجلس الإدارة. والأسوأ أنّ العرقلة لا تؤثّر على المستثمرين إنّما على الوضع الاقتصادي برمّته. حيث أنّ البلد أحوج ما يكون إلى استثمارات جديدة تضخّ الدولارات الطازجة في الاقتصاد وتخضعها لضريبة "حرزانة" وتشغل اليد العاملة الكفؤة".
الوضع في الهيئة "ضبابي"، باعتراف ذبيان. ويمكن أن "لا تعود الهيئة قادرة على متابعة اعمالها في وقت قريب". فهل تعطّل الهيئة قضاء وقدر أم أنّه، استسلام للفوضى والعرقلة. نتابع في الجزء الثاني من سلسلة المقالات هذه خطورة الخلافات الداخلية على وجود هيئة للأسواق المالية، خصوصاً في ظل تعطل القطاع المصرفي. على أن يخصص الجزء الثالث للحلول والبدائل لتفعيل دورها.