مصر لا تنظر إلى القضيّة الفلسطينية باعتبارها دائرة من دوائر سياساتها الخارجية فحسب، بل قضيّة تدخل في حسابات أمنها القومي...

فكرة "الثورة المصرية في 23 يوليو 1952"، ولدت على أرض فلسطين، في ظلّ مناخ عربي ملبّد بسحب كثيفة من التبعية، والانكسار والترهّل والعجز. وشكّلت نكبة 1948 وتأسيس المشروع الصهيوني على الأرض الفلسطينية، بالنّسبة للضابط الشاب جمال عبد الناصر، الذي كان محاصراً في قرية عراق المنشية الفلسطينية، الحافز الأبرز للنّضال من أجل التغيير بالثّورة على الأوضاع في مصر، وشرع في تأسيس تنظيم الضبّاط الأحرار، الذي نجح في قلب الأوضاع في مصر بعد أقلّ من أربع سنوات.

في أفق عملية التدمير الإسرائيلية الجارية في قطاع غزة اليوم، يلوح شبح نكبة فلسطينية أخرى، عمليّات القتل والترويع لإجبار نحو مليون فلسطيني على النّزوح من شمال القطاع إلى جنوبه تمهيداً لتوطينهم في سيناء المصرية تتواصل

فلسطين والنّكبة وثورة يوليو، أشعلوا أيضا الانقلابات العسكرية على امتداد الخريطة العربية ضدّ الأنظمة الحاكمة المتّهمة بالتخاذل في فلسطين، من سوريا حسني الزعيم إلى عراق عبد الكريم قاسم إلى يمن عبد الله السلال وصولاً إلى انقلاب معمّر القذافي الليبي وصولاً إلى سلسلة الانقلابات المتتالية في السودان من إبراهيم عبّود إلى جعفر النميري، قبل أن تتّخذ السيرة الانقلابية مساراً آخر.

في أفق عملية التدمير الإسرائيلية الجارية في قطاع غزة اليوم، يلوح شبح نكبة فلسطينية أخرى، عمليّات القتل والترويع لإجبار نحو مليون فلسطيني على النّزوح من شمال القطاع إلى جنوبه تمهيداً لتوطينهم في سيناء المصرية تتواصل. والجيش الإسرائيلي في خريف 2023 يكرّر ما فعلته عصابات الصهاينة "شتيرن" والهاغاناه" قبل 75 عاماً. ويعيد طرح سيناريوات "الوطن البديل" في ظروف وحسابات جديدة. الوطن البديل طرح نفسه أولاً في «الخيار الأردني»، عبر نقل سكّان الضفّة الغربية إلى الضفّة الأخرى من نهر الأردن بعد الاستيلاء الكامل على جنين والخليل وطولكرم وأريحا ورام الله وأحياء القدس الشرقية، عبر التوسّع الاستيطاني وتقطيع أوصال الضفّة وحرمان أهلها من الماء والعمل ومصادر العيش. هذا الخيار أُفشل مؤقتاً بعد تنامي المقاومة الوطنية الفلسطينية المستقلّة بعد نكبة 1967 وظهور منظّمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني... وثانياً، توقيع معاهدة وادي عربة، بين الأردن وإسرائيل عام 1994.

اليوم يعاد استحضار هذا الخيار بالحرب الضروس على غزة، التي إن نجحت بطرد الفلسطينيين إلى سيناء تكون تمهيداً لإعادة إحياء الخيار الأردني، بعدما تصير الضفّة وحيدة ومعزولة عن القطاع والعرب. وعلى رغم معاهدة كمب ديفيد المصرية الإسرائيلية، ظلّ مشروع نقل الفلسطينيين من غزة إلى سيناء قائماً، على أن يعوّض عن مصر بقطعة أرض في المقابل في صحراء رفح. وبالفعل قدّم نتنياهو هذا الاقتراح للرئيس المصري السابق حسني مبارك الذي ردّ على الفور قائلاً: "لا أنا ولا من هو أتخن منّي يقدر على التخلّي عن سيناء".

بعد المعاناة التي تسبّب بها التهجير الأول وحياة المنافي والتشرّد، لا يوجد فلسطيني واحد مستعدّ أن يتقبّل تكرار النكبة باستعارة أوطان بديلة. غرب النهر أردني وسيظلّ أردنياً وسيناء مصريّة وستظلّ كذلك. لقد دفعت مصر والمصريين أثمانا باهظة دماً وتضحيات لتحرير بوابتها الشرقية والحفاظ عليها. سيناء مسألة أمن قومي مصري، تتجاوز أهمّيتها أهمّية مياه النّيل لأنّها تمسّ بعصب السيادة المصرية، لذا هي خارج أي نقاش، لا يملك أحد حقّ التفريط فيها، أو المساومة عليها.

مصر لا تنظر إلى القضيّة الفلسطينية باعتبارها دائرة من دوائر سياساتها الخارجية فحسب، بل قضيّة تدخل في حسابات أمنها القومي. وإذا كان يحلو للبعض القول أنّ الوضع الاقتصادي المتأزّم في مصر، وتراكم الديون على الدولة كفيل بتراخي الاعتراضات المصرية على هذه المخطّطات والتغاضي عن إقامة وطن بديل للفلسطينيين في سيناء، فإنّ هذا الافتراض، ولو كان ممكناً، فمن هي الجهة العربية أو الدولية القادرة اليوم على دفع هذا الثمن الباهظ لمصر حتّى تتخلّى عن لاءاتها الحاسمة في هذا الشأن؟ لكنّ المسألة هنا ليست مسألة أموال أو اقتصاد، فماذا ينفع المال والاقتصاد القوي في ظلّ سيادة منقوصة وفقدان شرعية الحاكم؟ الأهمّ من ذلك، من هي السّلطة أو من هو الحاكم الذي يتجرّأ على اتّخاذا قرار خطير وبائس كهذا؟ من سيقبل بأن ينعت بصفة الخائن الذي باع أرضه، وأمامه صورة أحد أسلافه وقد اغتيل في وضح النهار لأنّه تجرّأ على إبرام الصلح مع العدو؟ ومن هو النظام الذي قد تسوّل له نفسه الإقدام على خطوة كهذه، ولا تزال ذكرى ثورة عبد الناصر في وجدان المصريين والعرب، ولايزال في مصر ضبّاط أحرار تحتضن فلسطين أحلامهم على خطى رئيسهم الراحل؟