مذ قال منصور رحباني "ما إنسان في الأرض يموت، إلَّا فيَّ يموت"، وأنا أنعى نفسي، إلى أن بلغ إليَّ نبأ وفاة جيزيل قزي خوري، فرأيتني، إلى النعي، أودّع بارتحالها زمناً جميلاً أمضيناه على مقاعد الجامعة وفي رسالة الصحافة، زمالةً، وفي الحياة صداقة وأكثر.
كنت أحمل غيتاري إلى كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية، في الفنار، وأذهب من فوري إلى كافيتيريا الكلية، حيث تجتمع "شلّتنا"، بضعة زملاء من سنوات مختلفة. أنا في السنة الثالثة، وثمة رفّ صبايا، من السنة الأولى، انضم إلينا. قعدت فإذا بعينين مختلفتين جذبتاني بين الحضور. تفرّست في وجه صاحبة العينين، تملّكها الخجل. تركت الشلّة، وصعدت إلى الصفّ. وفي الفرصة الثانية، تجمّع البعض من حولي، يريدون أغنية لفيروز، على جاري العادة. بقيَت هي بعيدة، فيما الآخرون يغنّون معي. اقترحتُ أغنية أسمعهم إيّاها، للمرة الأولى. وما إن هممت بالعزف، حتى اقتربت هي من الدائرة. غنّيت "بين ريتا وعيوني بندقية". مارسيل خليفة، عام 1979، في كلية الإعلام، ولكم أن تتخايلوا ردود فعل البعض. اقتربَت مني، في ختام الحلقة، وقالت: وأنا أيضاً أحب مارسيل.
كانت العينان اللتان تأمّلت بهما جدّاً حين اقتربت مني، وأغاني مارسيل خليفة، جسر العبور إلى علاقة جمعت الزمالة والصداقة والإعجاب... حتّى إن صورة جمعتنا في مجلة الكلية، واقفين إلى عمود، ذُيِّلت بتعليق: ليته يذوب.
هكذا تعرّفت إلى جيزيل قزي. ابنة المحامي اللامع جورج قزي، رئيس رابطة العائلة في لبنان، وواضع كتاب "وجوه من بلادي"، المثقف الأرستقراطي، وابنة سلمى نعمة ابنة غرفين، السيدة الرصينة المسؤولة الرفيعة في الصليب الأحمر اللبناني. ابنة بيت أخبرتني جيزيل كثيراً عن جوه، حين ينصرف الجميع مساء، كلّ إلى ركنه يقرأ. وقد عاشت قليلاً مع والدها الذي غادرها وهي فتية، وتركها وأخاها إيلي، وحيدين في كنف الست سلمى.
تعلّمت جيزيل، سنوات، في مدرسة داخلية. ولم تعرف أباها كثيراً، وكتبت في عيد الأب عنه: "لم أعرفه كثيراً، رحل باكراً. لكنّه سكنني كلّ حياتي بعينيه الخضراوين وابتسامته الساحرة وهدوئه الحنون". وقيل لها عن لسانه هذا الشعار "اللبناني ليس صاحب عقيدة إنّه صاحب أفكار".
كثرت لقاءاتنا الجماعية داخل الكلية وخارجها، حتى إنني كنت أنضم إلى ثلة رفيقات لها، أُعينُهن في المذاكرة للامتحانات، خصوصاً في مواد اللغة العربية. لا بل كنَّ جميعاً وأخريات وآخرين، جمهوراً يلحق بنا إلى ملاعب كرة القدم، يشجّع فريقنا، ناهيك برحلات نقوم بها إلى المناطق أو "بيك نيك" بين حين وآخر، وسهرات نلبّي الدعوات إليها، وسهرات ولقاءات في منزلها الوالدي الفسيح، في العقيبة... فيما الدنيا حرب.
كان حب الحياة وتحدي الصعاب يشعلاننا، فنحيا، لعلّ وعسى.
عمِلت منذ سنيِّها الأولى في الكلية، في مجلة "الفراشة" الفنية الاجتماعية التي كان يرئس تحريرها الأستاذ هنري زغيب. ثم جمعنا عمل مشترك في المؤسسة اللبنانية للإرسال، بين العامين 1980 و1981، في المرحلة التحضيرية لانطلاقها الذي تأخر إلى العام 1985. كنّا معاً فريقاً لصوغ نشرة الأخبار وقراءتها. أجرينا اختبارات وتمارين كثيرة بإشراف الممثلة المسرحية اللبنانية العالمية ميراي معلوف. أنا اهتممت، من ثم، وشغلت بالصحافة المكتوبة، وهي عادت إلى الإعلام المرئي، من خلال المؤسسة التي فيها تدرّبَت. واستمَرت.
قدَّمت أحد أبرز برامج المحطة "حوار العمر" بأسلوب يجمع السلاسة بالرصانة، فكسبت ثقة كبار حلّوا عليها ضيوفاً: سعيد عقل، جوزف حرب، منصور رحباني، زياد رحباني، أنسي الحاج... وانطبعت صورتها في ذهن المشاهدين رقيّاً وحضوراً محببًا طبيعيّاً بسيطاً أنيقاً، لا أكسسوارات خارجية فيه، ولا مبالغات.
تزوجت عام 1982، من طبيب القلب الدكتور إيلي خوري، ورزقا بابنة وابن، رنا ومروان. حضرتُ ومجموعة زملاء زفافها في كنيسة يسوع الملك، وكان في مقدم الحضور الرئيس كميل شمعون صديق والدها. وهنأتُها بولادة ولديها، وكانت تسكن في جيرتي، في جبيل.
تابعت عملها وبقينا على اتصال، نلتقي في مناسبات عامة، إلى أن قصدتني ذات يوم إلى مكتبي في صحيفة "الحياة"، مطلع التسعينات، وأسرّت إليّ أنّها على علاقة بسمير قصير، لكنها ترجئ أي خطوة مستقبلية بينهما في انتظار أن يكبر ولداها.
أمّا سر بداية تلك العلاقة، فأخبرتني إياه. قالت إن سمير كان في زيارة لمحمود درويش في باريس، فلفتته صورة معلّقة على الجدار لعينين، واحدة سوداء والأخرى بنية. سأل سمير محمود عن صاحبة هاتين العينين، وكأنّي بمحمود يرشده إليها، وفي حدسه، أو قل خياله الشاعري، إنّه يكتب قصيدة عن عاشقين.
إنهما إذاً العينان، العينان اللتان وصفتُهما في أحدى قصائدي بـ"اللونين من خجل".
... وكان، عام 2001، وسمير قصير ملاحق من النظام الأمني، بعدما أوقف في المطار وسحب منه جواز سفره، بحجّة أنّه فلسطيني، وهو الذي استرجع جنسيته اللبنانية بحكم قضائي، ولم يحصل عليها بمرسوم تجنيس أو بمنَّة من سياسي. عاش ثلاثة أسابيع متنقلًا بين منازل كثيرة، وبين محطّاته زيارة لمبنى "الحياة" في بيروت، برفقة جيزيل التي اقترن بها قبل أشهر.
التقينا في مكتب مدير الصحيفة الزميل جوزيف سماحة، وسألناه: إلى متى تبقى "متشرِّدًا" هكذا؟ لم يجب. قال: "لا أعرف ماذا يريدون مني". وما العمل؟ هل نصدر بيان استنكار أو عريضة يوقّع عليها زملاء ومفكرون ومثقفون؟ أيضاً لم يجب. نصصنا البيان – العريضة، نضَّدته بيديَّ، وقرأناه على مسمعه. خجل ولم يعلق، هو الدقيق الملاحظة، الراصد الأمور بميزان الجوهري. اتصلنا بمن يجب، وحشدنا له تواقيع، ووزعنا الخبر على الصحف، فيما جيزيل سعيدة وقلقة في آن.
أيام... وانتهت محنة قصير في سلام، لتبدأ محنة ذاك النظام مع قلم الصحافي الذي لم يرحمه مذذاك.
وحين زاراني، سمير وجيزيل، لتهنئتي بخروجي من السجن، في تشرين الثاني 2002، أخبرته أن قضية بيان التأييد، كانت جزءاً من التحقيق الذي أجري معي، في وزارة الدفاع، بعد توقيفي. راح يسأل ويتوقف عند كل تفصيل، واستغرب كيف قُلت أنا للمحقق: شرف لي أن أنصَّ بيان تأييد لزميل لي، أيّاً يكن هذا الزميل، فكيف إذا كان سمير قصير؟
كان قلم سمير سليطاً، قبل التمديد، على فعل التمديد، وعلى المشمول به، متجرّئاً على محظور يؤدّي بمن يخرقه إلى خلف القضبان. وفي يقينه وقراءته أنّ التمديد لن يمرّ. وإذ مرَّ، صادفته بعد يومين في شركة إعلان، سألني: ماذا سيحصل لي، في رأيك؟ ظننته خائفاً من عواقب مواقفه. أسديت إليه "نصائح"، بحكم "الخبرة" لا بحكم العارف أو القادر. وانتظرت صباح الجمعة لأقرأه. خلتني أمام كاتب غير ذاك الذي كان يحدثني قبل أيام. لم يثنه ذاك الحذر الطفولي المختبئ خلف وجه جدي الملامح، عن تصعيد موقفه من فعل عدَّه في غير مصلحة لبنان، في لحظة متغيّرات جذرية.
وكانت جيزيل إلى جانبه، في كل مواقفه، لا بل تقول إنّها تعلمت عليه ومنه الكثير، مما أكسبها معرفة ودراية بكثير من الأمور، ورفدها بقدرة على التحليل والربط، كانت جميعاً عدة أساسية في عملها التلفزيوني الذي تنقلت فيه بين أبرز الفضائيات العربية.
إلى أن استشهد سمير، في 2 حزيران 2005. عادت على عجل من زيارة للولايات المتحدة الأميركية. وتحلّق حولها في منزلهما في الأشرفية لبنان كله، ومن ضمنه زملاؤها في الجامعة. واكبناها في مصابها. حتّى حللتُ عليها، بعد أسابيع على استشهاد سمير، ضيفاً في أحد برامجها، وكان موضوع الحلقة السجون. انتهت المقابلة، وهممنا بالانصراف. لمحت الحزن العميق في عينيها، والمكابرة على الصعاب، فهمست في أذنها: أبقي قوية. فحين تأوين إلى فراشك لن يكون إلى جانبك إلَّا دموعك.
قلت هذا وأنا أعلم تماماً ما عانته. تيتمت فتية. فقدت شقيقها الوحيد إيلي، وقد عملت المستحيل لتوفر له رئة تزرعها له، لكنّ الموت عاجله وهو ابن 35 عاماً. ثم رحلت الست سلمى. وبقيت جيزيل وحيدة، سندها رنا ومروان، وأحفادها. هذا ما قالته لي وأنا أعزيها بوفاة والدتها في منزلها في العقيبة الذي جدّدته وأهّلته، حيث كانت تحبّ أن ترتاح بين حين وآخر.
عرفتُ بمرضها من الدكتورة إيفانا مرشليان، زميلتي في التعليم في كلية الإعلام، منذ خمسة أشهر. ولم تخف جيزيل حقيقة وضعها، إذ أعلنت ذلك على الملأ، في احتفال لمؤسسة سمير قصير التي أنشأتها لتتابع مسيرة حبّها الغائب.
واليوم، إذ أنعى نفسي، بغيابها، تبقى الذكرى والذكريات. كانت تعشق أغنية "أجمل حب" لمحمود درويش ومارسيل خليفة. كأنّي بها والعمر، الذي ما وهبها إلَّا 62 من أعوامه، تشبهان مطلعها: "كما ينبت العشب بين مفاصل صخرة، وجدنا غريبين معاً، ونبقى رفيقين دوماً".