ممّا لا شكّ فيه أنّ أحدث الأسلحة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي والطائرات بدون طيار ساعدت في اختيار وتدمير أهدافاً حيوية في القطاع...
يحلو لبعض الخبراء العسكريين أن يطلقوا على عدوان الجيش الإسرائيلي على قطاع غزة تسمية "الحرب الإلكترونية الأولى"، منطلقين من فكرة أنّها تعتمد إلى حدّ كبير على الأسلحة غير التقليدية القائمة على الذكاء الاصطناعي.
وبحسب تقرير لوكالة الأنباء العالمية رويترز نُشر قبل أيام قليلة مفاده أنه بتاريخ 27 أيلول، أي قبل أسبوع تقريبا من شن مقاتلي كتائب القسام أكبر هجوم مفاجئ على إسرائيل منذ حرب يوم الغفران عام 1973، اصطحب مسؤولون إسرائيليون رئيس اللجنة العسكرية لحلف شمال الأطلسي الأدميرال روب باور إلى حدود غزة، حيث قدّموا عرضاً على كيفية استخدامهم للذكاء الاصطناعي والتباهي بالمراقبة العالية التقنية.
وتحدث المسؤولون الإسرائيليون علناً وللمرة الأولى، عن استخدام هذه التكنولوجيا في حربهم الأخيرة على غزة في العام 2021، وممّا لا شكّ فيه أنّ أحدث الأسلحة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي والطائرات بدون طيار ساعدت في اختيار وتدمير أهدافاً حيوية في القطاع.
ومع ذلك، فإنّ فشل هذه الأنظمة في إطلاق تحذير مسبق عن هجوم كتائب عزالدين القسّام المفاجئ، يمثّل فشلاً في المعلومات الاستخباراتية التي من المرجّح أن تتم دراستها ومناقشتها لسنوات، خاصّة وأنّ حجم الأحداث خلال عطلة نهاية الأسبوع شكّل صدمة للجيش الإسرائيلي والمدنيين على حد سواء ولا يزال واضحاً، ناهيك عن ملايين العرب الذين تفاجأوا بمجريات الأحداث وطبيعة الهجوم، حيث تمّ اجتياح العديد من المواقع العسكرية الإسرائيلية الأمامية والبلدات والمستوطنات السكنية في غلاف غزة، وفي كثير من الحالات على ما يبدو دون سابق إنذار، في حين أن نطاق إطلاق صواريخ حماس طغى في بعض الأحيان على دفاعات القبّة الحديدية الإسرائيلية المتطورة.
فمن الطائرات بدون طيار التي تَستخدم برامج التعرف على الوجوه، إلى نقاط التفتيش الحدودية والتنصت الإلكتروني على الاتصالات، يُنظَر إلى المراقبة الإسرائيلية لغزة على نطاق واسع على أنّها من بين أكثر الجهود كثافة وتطورا في أي مكان.
وخلال شهر أيّار الماضي، قال المدير العام لوزارة الدفاع الإسرائيلية إيال زامير إنّ البلاد على وشك أن تصبح "قوة عظمى" في مجال الذكاء الاصطناعي واستخدام مثل هذه التقنيات لتبسيط عملية صنع القرار والتحليل.
وتشير الأحداث التي وقعت في نهاية هذا الأسبوع إلى أن السلطات الإسرائيلية أصبحت بالفعل مفرطة في الثقة في تلك القدرات، لذا قد يكون هذا بمثابة تحذير للحكومات الأخرى التي تتحوّل بشكل متزايد إلى مجموعة من مقاولي الذكاء الاصطناعي الذين يعدون بأن يكونوا قادرين على تقديم تحليل قاطع وإنذار مبكر.
يمكن أن تثبت هذه التقنيات أنّها لا تقدّر بثمن في قدرتها على تجميع كميات هائلة من البيانات، لا سيما في المجالات التقنية مثل السونار أو الرادار، لكنّها تعجز حتى عن تفسير النشاط البشري في بيئة حضرية مزدحمة مثل غزة.
وبرغم صناعة التكنولوجيا الحربية الفائقة التي تعتمدها إسرائيل، يقول مسؤولون إسرائيليون إنّ جميع حروبهم وعملياتهم السابقة في غزة استخدمت معلومات استخباراتية وضربات أكثر دقة وكانت أكثر نجاحاً، في حين اعتمدت حماس على العنصر البشري مع أقلّ قدر ممكن من التواصل اللاسلكي في عمليات التحضير، وهو ما شكّل حجر العثرة أمام عمليات التنصت الفائقة الذكاء التي اعتمدت عليها إسرائيل، مما عكس مدى تحذير المقاتلين الفلسطينيين مسبقاً من قبل القادة بخطط الهجوم وأبقى خططهم سرية للغاية.
ومن الملاحظ أنّ حماس اعتمدت على سبات القوات الإسرائيلية خلال عطلة "سوكوت" الدينية، وهي عطلة عيد العرش او المظلات، إذ يبدو أن القوات الإسرائيلية اعتمدت على التقنيات الحديثة بإطلاق الإنذارات المبكرة، إلّا أن بداهة وفطنة المقاومين كانت أشبه بالصفعة العسكرية، واعتمدت على عنصر المفاجأة البشرية التي خضعت لتدريبات سابقة بما في ذلك تدريب المسلحين على التحليق بالمظلات.
من التعلم الآلي إلى التطبيق
بعد الاعتماد بشكل كبير على التعلّم الآلي، أطلق الجيش الإسرائيلي اسم عملية حارس الجدران على أول حرب استخباراتية معزّزة بالذكاء الاصطناعي. فلأول مرة، يشكّل الذكاء الاصطناعي المكوّن الرئيسي ويساهم في مضاعفة قوة الجيش الإسرائيلي مع محاولته للاعتماد على الآلة وتقليل الإصابات في صفوف جنوده، إذ يشير ضابط كبير في المخابرات الإسرائيلية إلى أنّ هذه الحملة هي الأولى من نوعها للجيش الإسرائيلي، حيث يتم تطبيق أساليب عمل جديدة واستخدام تقنيات تكنولوجية حديثة جداً.
في الوقت الذي اعتمدت فيه الجيوش على ما هو متوفر بالفعل في الاسواق المدنية وقاموا بتكييفه لأغراض عسكرية في السنوات الماضية، أنشأ الجيش الإسرائيلي منصّة تكنولوجية متقدّمة للذكاء الاصطناعي تركّز على جمع البيانات المتعلّقة بمجموعات المقاومة في قطاع غزّة في نظام واحد مكّن من تحليل واستخراج المعلومات الاستخبارية.
وكان الجنود في الوحدة 8200، وهي وحدة نخبة في فيلق المخابرات رائدة في عالم الخوارزميات والرموز، ابتكروا العديد من البرامج الجديدة المسماة "الخيميائي" و "الإنجيل" و "عمق الحكمة"، والتي تم تطويرها واستخدامها أثناء القتال حيث تم جمع البيانات باستخدام استخبارات الإشارة (SIGINT) والاستخبارات البصرية (VISINT) والاستخبارات البشرية (HUMINT) والاستخبارات الجغرافية (GEOINT)، حتى أصبح لدى الجيش الإسرائيلي كمّيّة هائلة من البيانات الخام التي يجب تصفيتها للعثور على الأجوبة الرئيسية اللازمة لتنفيذ ضرباته.
برنامج "الإنجيل" استخدم الذكاء الاصطناعي لتوليد توصيات للقوات المسلحة في قسم الأبحاث في المخابرات العسكرية التي استخدمتها بدورها لإنتاج أهداف عالية الدقّة ثم نقلتها إلى سلاح الجو الإسرائيلي لضربها.
ولأوّل مرة، يشير جيش الاحتلال الإسرائيلي أنّه تمّ إنشاء مركز متعدد التخصصات ينتج مئات الأهداف ذات الصلة بتطورات القتال، ممّا يسمح للجيش بمواصلة القتال طالما احتاج إلى المزيد والمزيد من الأهداف الجديدة. ويعتقد الجيش الاسرائيلي أنّ استخدام الذكاء الاصطناعي يساعد في تقصير مدة القتال، ويؤكد أنّ أقمار (GEOINT) التابعة لوحدة الجيش الإسرائيلي 9900 التي جمعت المعلومات على مر السنين كانت قادرة على اكتشاف التغييرات في التضاريس تلقائياً في الوقت الفعلي، مما يمكّن الجيش من اكتشاف مواقع إطلاق الصواريخ.
يذكر أنّ الجيش الإسرائيلي أشار مرّات عدّة إلى قدرته على استخدام الذكاء الاصطناعي لرسم خرائط للمواقع فوق الأرض إضافة إلى وضع تصورات للأنفاق تحت الأرض. إذ يزعم أنّه تمكّن من الحصول على صورة كاملة للشبكة فوق الأرض وتحتها مع تفاصيل، مثل عمق الأنفاق وسمكها وطبيعة الطرق.
هذا ويستخدم الجيش الإسرائيلي نظام "الخيميائي"، والذي طورته الوحدة 8200 واستخدم الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي لتنبيه القوات في الميدان إلى هجمات محتملة إذ يتم استخدام النظام الديناميكي والتحديث من قبل كل قائد وحدة في الميدان لديه النظام على جهاز لوحي سهل الاستخدام.
الحرب اليوم على غزة قد تشكّل منعطفاً خطيراُ في سير عمليات الحروب كونها المرّة الأولى التي يتم فيها استخدام الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع خلال عملية عسكرية واحدة، إذ تقوم إسرائيل بنشر التكنولوجيا لصد الهجمات الصاروخية وتحديد الأهداف، وسيتم استخدام الدروس المستفادة من تجربة ساحة المعركة الحقيقية لتحسين الدقة.
هذا وتعتمد إسرائيل على استخدام الذكاء الاصطناعي لتحديد مسارات الصواريخ بناء على معلومات الرادار وبالتالي اعتراضها، حيث تمّ تصميم النظام بحيث يترك الصواريخ التي يحكم عليها بأنها تسقط في المناطق التي لا تشكّل أهمية للإسرائيليين، وتقدّر تكلفة كل صاروخ اعتراضي بأكثر من 50,000 دولار أميركي، لذا فإنّ التوقّف عن عمليات الاعتراض التي لا طائل من ورائها يساعد في التحكم في التكاليف.
هذا وتلجأ إسرائيل إلى الذكاء الاصطناعي لتنسيق الهجمات على غزة حيث يتم تحليل كميات هائلة من البيانات التي تم جمعها من الاستخبارات البشرية والمعلومات الجغرافية لما يسمى بالهجمات الدقيقة. وبالاعتماد على صور الأقمار الصناعية وأجهزة الاستشعار وغيرها من المصادر. وتمكّن جيش الاحتلال من الحصول على معلومات جغرافية ثلاثية الأبعاد 3D عن غزة، مع زعم الجيش قدرته على تحديد مواقع قاذفات الصواريخ، كما سلط الذكاء الاصطناعي الضوء على أنواع الأسلحة التي تستخدم في الهجمات وعلى تحديد طرق أكثر أمانا للقوات البرية بالقرب من الخطوط الأمامية.
ويشير مصدر في جيش الاحتلال أن الخوارزميات والنمذجة الثلاثية الأبعاد 3D تساعد على رفع مستوى الدقة، فالجيش يستخدم كلّ ما هو متاح ويمكن جمعه في الوقت الفعلي.
ومع كل هذا "الذكاء" والتقنيات، تقول المصادر الطبّية أنّ الهجمات الإسرائيلية على غزة قتلت أكثر من الف وخمسمئة فلسطينياُ وأدّت إلى جرح الآلاف مع تهجير أكثر من 630 ألف آخرين حتى الآن .
وتجدر الإشارة إلى أنّ أسلحة الذكاء الاصطناعي المدارة من أشخاص قد تعزّز الكفاءة، إلّا أنّ مخاوف فقدان السيطرة على هذه الأسلحة يتعزّز يوماُ بعد يوم حيث تطالب بعض جماعات حقوق الإنسان بحظر تطوير الأسلحة ذاتية التشغيل بالكامل.