يقول الفيلسوف النمساوي، لودفيغ فيتغنشتاين، في كتابه "مصنّف منطقي فلسفي" سنة 1922: "حدود لغتي هي حدود عالَمي".
لم تترك العولمة وجهاً لم تطله من أوجه الحياة. وكأحد تجلّياتها، لم يَعُد تحوُّل أعدادٍ متزايدة من البشر إلى ثنائيّي اللغة (bilingual)، إن لم يكن متعدّدي اللغة (multilingual)، مثيراً للدهشة. إنها قاعدة من قواعد العصر، لا أحد استثناءاته. صحيح أن إيجابيات اكتساب المهارات اللغوية تبدأ بتعزيز القدرة على تطوير العلاقات البينيّة والعملية ولا تنتهي بخلْق فرص النجاح وتحسين مستوى الدخل. لكن في عالَمٍ حيث تطغى علامات الشقاق على مساحات التلاقي، قد يكون إتقان اللغات أيضاً فسحة مشتركة للتخفيف من وطأة الانشطارات، على أنواعها. والعامل الجماعي ذاك ليس سوى انعكاسٍ لأبعادٍ تمنحها اللغات لِمُتقِنيها على مستويَيّ العقل والإدراك الفرديّين.
يقول الفيلسوف النمساوي، لودفيغ فيتغنشتاين، في كتابه "مصنّف منطقي فلسفي" سنة 1922: "حدود لغتي هي حدود عالَمي". يومذاك، ما رمى إليه فيتغنشتاين يمكن إيجازه بأن لمخزون الكلمات التي في جعبتنا بالغَ الأثر على ما نراه من حولنا. إذ بِقدْر ما يُغذّى ذلك الرصيد، بِقدْر ما تتعزّز قدراتنا الإدراكية ويتوسّع المنظار الذي نطلّ عبره على المحيطَين القريب والبعيد.
قبل سنوات، قامت المتخصّصة في مجال اللغة والإدراك في جامعة كاليفورنيا – سان دييغو، الأميركية ليرا بوروديتسكي، باختبار طلبت فيه من مجموعة أشخاص إغماض أعينهم والإشارة إلى اتّجاه معيّن. وفي حين أشار المتفاعلون مع السؤال من الأميركيّين في شتّى الاتّجاهات، أصابت طفلة في الخامسة من سكان أستراليا الأصليّين في تحديد الاتّجاه الصحيح – والسبب؟ اللغة. فالطفلة، بخلفيّتها، لا تستخدم في سياق التعبير كلمات مثل "يمين" و"يسار"، بل تستعين بنقاط مرجعية على غرار "الفتاة الجالِسة إلى الشرق منّي هي شقيقتي". وهكذا، تختلف المفاهيم المتعلّقة بالمجالات الأساسية، كالزمان والمكان، بشدّة بين الثقافات. واللغة جزء لا يتجزّأ من هذه الدينامية.
وبالحديث عن الزمان (أو الوقت)، تمنحنا ثنائيّة اللغة (أو تَعدُّدها) تصوُّراً أكثر دقّة عنه. ففي العام 2017، قام باحثون بالطلب إلى مجموعة من ثنائيّي اللغة الإسبان والسويديّين تخمين الوقت الذي مرّ بعد الانتهاء من النظر إما إلى إناء في طور الامتلاء بسائل ما أو إلى خطّ آخذ بالاكتمال على شاشة تماشياً مع امتلاء الإناء. المشاركون الإسبان قدّروا الوقت نسبة إلى حجم الإناء، في حين أجاب السويديّون اعتماداً على مستوى اكتمال الخطّ على الشاشة. وذلك يعود إلى تدليل اللغة الإسبانية على الوقت بمنطق الكِبَر والصِغَر، بينما تجسدّه اللغة السويدية من منظار الطول والقِصر. هنا أيضاً، للغة دورٌ فاعلٌ في بلورة تجربة الفرد النفسية - الجسدية مع الوقت.
وإلى الإدراك البصري والذاكرة. فقد بيّن بحث نُشر في مجلّة "Science Advances" في شهر آب الماضي، أن اللغة والذاكرة - كعمليّتين معرفيّتين مختلفتين - مرتبطتان للغاية. وتركّزت التجربة حول قيام باحثين من جامعة نورث وسترن الأميركية باختبار 42 متحدّثاً بالإنكليزية و84 متحدّثاً بالإسبانية والإنكليزية معاً، متعقّبِين حركة أعينهم خلال تأديتهم لمهام بحثٍ بصريّ. وظهر أن الذين يتكلّمون أكثر من لغة يتذكّرون المشاهد المرئية بشكل مختلف. إذ أثناء تأدية مهام التعرّف على الكلمات المنطوقة، يفضي سماع كلمة ما إلى تحفيز الدماغ على التفكير أيضاً في كلمات "منافِسة" مماثلة – أي شبيهة لفظاً.
وكشفت بيانات تتبّع حركة الأعين أن جميع المشاركين أمضوا وقتاً أطول بالتحديق في صُوَرٍ ترمز إلى كلمة منافِسة باللغة الإنكليزية مقارَنةً مع أخرى غير منافِسة، في حين أن ثنائيّي اللغة صبّوا تركيزهم على الصُوَر المرتبطة بكلمتين منافِستين، إحداهما إنكليزية والأخرى إسبانية. وهذا يشير، في كلتا الحالتين، إلى أن المنافَسة بين الكلمات عزّزت منسوب التركيز - وتشفير الذكريات البصرية - لدى المشاركين، كلّ حسب مخزونه اللغوي. وهو دليل على العلاقة بين اللغة والذاكرة.
من ناحيتها، سخّرت أستاذة علوم الاتصال واضطرابات الاتصال بجامعة نورث وسترن، فيوريكا ماريان، عقوداً طويلة في دراسة معالَجة الدماغ للغات وأثر ثنائيّة اللغة على القدرات الإدراكية والتعلّم والمشاعر والهوية كما اتّخاذ القرار والتفكير الخلاق وحلّ المشاكل. وفي كتاب بعنوان "قوّة اللغة"، تناولت التداخل التفاعلي بين اللغة والعقل، حيث أن التوفيق بين لغّتين أو أكثر يؤدّي إلى إنشاء شبكة عصبية أكثر ترابطاً تعوّض وظيفياً عن تدهور الذاكرة.
ماريان شرحت احتمال تآكل المسار الدماغي الذي يتيح الوصول إلى الذكريات أو المعلومات المخزّنة لدى أحاديّي اللغة. بينما يمتلك متعدّدو اللغة – نتيجة التعدّد ذاك - مسارات أخرى تتطوّر مع الوقت بسبب نشوءِ الروابط بين الكلمات والذكريات والتجارب المتراكِمة. وهذا ينسجم مع اكتشافات لاحقة على صعيد عِلم الأعصاب المرتبط بتعدّد اللغات لناحية تأخّر إصابة مُتقنِيها بمرض الزهايمر وأنواع الخرف الأخرى بواقع أربع إلى ست سنوات. ويتحدّث المختصّون في هذا الإطار عن رشاقة ومرونة، ذات منشأ لغويّ، تدعّمان القدرات العقلية لدى هؤلاء.
بالمحصّلة، يعتبر علماء اللغويات أن القدرة على التعامل مع مجموعة لغات في آن من شأنها منْحنا سلاحاً نحن بأمسّ الحاجة إليه إن اردنا التصدّي للصراعات المتعدّدة الرؤوس – داخل المجتمعات وفي ما بينها - وصياغة حلول مبتكرة لها. فتوافُر أنماط مختلفة من التفكير نابعة من التعدّدية اللغوية ترفع من فرص العثور على إجابات توفيقية بين وجهات النظر المتضاربة. أستاذة اللغويات التطبيقية في جامعة "تِمبِل" الأميركية، وصاحبة كتاب "عقل ثنائيّ اللغة"، أنيتا بافلينكو، تختصر المشهد بالقول إن الرغبة في تعلّم لغة أخرى واستخدامها بطلاقة تفرض على المرء تغيير أسلوب التصرّف بصغائر الأمور وأحياناً كبائرها. وهي تغييرات لا بدّ منها للإسهام، ولو جزئياً، في رأب تصدّعات جمّة – داخل أدمغتنا وخارجها.