يشكّل ذوو الاحتياجات الخاصة نسبة 15% من تعداد السكان في لبنان، ويعاني هؤلاء من ارتفاع البطالة بنسبة تصل لنحو 85% من تعداد تلك الفئة، بحسب تقرير البنك الدولي ومنظّمة الصحة العالمية

تدخل القاعة، فتراه جالساً على كرسيه، مركّزا على أدوات لعب الأغاني، يتفاعل مع الجمهور، ويصغي إلى مطالبهم. يتنقّل من أغنية لأخرى كمحترف، حاملاً مهمّة واحدة وهي ضمان أن يحظى الروّاد بسهرة من العمر. الملل ممنوع، وكيف يملّ وأغانيه الصاخبة تغزو الساحة وتحرّك الجماد.

ببسمة لا تفارق وجهه وروح مرحة مفعمة بحبّ الحياة، يتزوّد جو جبر إبن الـ 26 عام بإرادة صلبة وإصرار على مقاومة ظروفه الصحيّة الصعبة، "فيولّع" أجواء السّهر في العاصمة بيروت وضواحيها، بقائمة تشغيل أغاني من اختياره، تخترق قلوب عشّاق السهر، فتسقيهم فرحًا وحبًّا وسعادة.

يعاني جو من شلل دماغي منذ الولادة، سبّب له اضطرابات حركيّة وصعوبة في النّطق والتعبير، إلاّّ أنّ ظروفه الصحيّة هذه لم تقف عائقاً أمام إرادته القويّة وحبّه للعلم والتطوّر. حيث حاز على إفادة تدريبيّة في مجال تكنولوجيا المعلومات، وشهادة أخرى في مجال التسويق الرقمي، وها هو اليوم يمتهن مهنة "دي جي"، هذه المهنة التي تحيي روحه كإنسان وتشعره بالمعنى الحقيقي للحياة، ليؤكّد مرّة جديدة لكلّ متابعيه أن لا شيء مستحيل متى توفّرت الإرادة والإصرار.


قصّة تحويل الاحتياجات الخاصّة إلى طاقة

تواصل موقع "الصفا نيوز" مع جو جبر، للإستفسار عن الدافع الذي جعله يدخل عالم السّهر، والصعوبات والتحديات التي واجهها في مسيرته المهنيّة. حيث روى في حديث خاص أنّه "وخلال إحدى الحفلات التي كانت تقيمها جمعيّة Sesobel (جمعيّة تعنى بالأطفال ذوي الاحتياجات الخاصّة) لفتني شاب يعمل كـ"دي جي" كان يحيي الحفل، وفاجأني بأدائه وطريقته بالتنقّل بين أغنية وأخرى، وأحببت الفكرة وبدأت أعلّم نفسي بنفسي، كيفيّة اللعب بالأغاني. وفتحت قناة خاصّة بي على يوتيوب وبدأت أحضّر الـPLAYLIST وأنشرها وكانت تلقى اعجاب الكثيرين. من بعدها أصبحت أشارك في حفلات صغيرة ومهرجانات في القرى، وبعد أن نال عملي شهرة متواضعة، أصبحت أحيي حفلات في النوادي الليليّة".

وعمّا إذا واجه رفضاً أو مضايقات من البعض بسبب حالته أجاب "تعرّضت للكثير من التنمّر والرفض والمضايقات، والكلام القاسي والإنتقادات، إلاّ أنّ ذلك لم يؤثّر بي، و"ما كانت تفرق معي"، ولعلّ السبب هو الطريقة التي تربّيت عليها في المنزل وفي الجمعيّة، حتّى أنّ البعض يستغرب من عدم إنزعاجي. بالإضافة إلى حجم الدعم الكبير الذي أتلقّاه من أفراد عائلتي وأصدقائي. فهم يؤمنون بي ويثقون بقدراتي".

وأكّد أنّه "يتساوى بالأجر مع أيّ "دي جي" آخر، وأنّه يأخذ حقّه، ولا يتعرّض لأيّ نوع من أنواع التمييز في الأجر بسبب حالته. إلاّ أنّه وبرأيه "في لبنان إن كان الشخص يعاني من إعاقة جسديّة أم لا فهو بحاجة إلى "واسطة".

وعن طموحه يقول "أطمح للوصول إلى العالميّة في مجالي، ودراساتي في اختصاص المعلوماتيّة والتصميم الغرافيكي، والتسويق الرقمي، تساعدني على تطوير عملي"، مشيراً إلى أنّني "أخلط الأغاني مباشرة خلال الحفل دون تحضير مسبق، ودون وضع HEADPHONES، ما يساعدني على حفظ الأغاني والتفاعل مع الجمهور".

أهمّيّة الدّور الذي يلعبه الأهل في حياة ذوي الاحتياجات الخاصّة

من جهته يقول والد جو، الياس جبر، في حديثه لموقع "الصفا نيوز"، إنّ "جو وعند ولادته عانى من نقص بكميّة الأوكسجين في جسمه، جرّاء خطأ طبّي، ما سبّب له شلل دماغي جعله يعاني من عجز في الحركة وأثّر على سمعه ونطقه. أمّا نحن كأهله فبحكم العشرة نفهم عليه. وبعد أن تنقّلنا على مدى 6 أِشهر بين مستشفى وآخر، وعيادة وأخرى، شرح لنا أحد الأطباء حالته ونصحنا بأخذه إلى جمعيّة سيسوبال. والتي قضى فيها حوالي الـ 24 سنة بالتنسيق مع الأسرة، وحظي بجلسات تأهيل وتدريب وعلاج فيزيائي، وتعليم".

ولفت إلى أنّ "جو من نوع الأشخاص الذين يحبّون التعلّم وتجربة أشياء جديدة، رغبته بمعرفة المزيد وحشريّته دفعاه إلى حبّ الموسيقى. والقصّة بدأت في عام 2013، حين طلب منّي أن أشتري له آلة للعب الموسيقى. وأمّنت له واحدة، وفي البداية كانت لعبة للتسلية، إلاّ أنّه طوّر نفسه وأتقن العمل عليها، حتى أصبح يلعب الأغاني في المناسبات العائليّة، كأعياد الميلاد وغيرها. وبعد أن لاحظنا أنّه موهوب بالفعل، اشترينا له آلة متطورة أكثر، وعاد هو وجدّد آلته بالأموال التي جناها من عمله. واليوم، يحيي جو حفلات في أهمّ النوادي الليليّة في بيروت، منها حفلات رقص وسهر، وحفلات أعراس وهو يتمّم هذا العام الـ10 سنوات في هذه المهنة".

ولجو أخت وأخ، متزوجان، بحسب جبر، "أمّا أنا فمتقاعد من الجيش اللبناني، وقد تفرّغت له ولعمله، حيث أرافقه في جميع مناسباته، وزوجتي كانت سند حقيقي لنا، أمّا ولدانا وبفضل "سيسوبال" فقد خضعوا لبرنامج تدريب للإخوة حول كيفيّة التعامل مع جو وتقبّله".

وعن التحدّيات التي واجهتهم قال "وجد البعض صعوبة في تقبّل وضع جو الصحّي، وكانوا ينتقدونه ويسيئون معاملته. فيما قسم آخر من النّاس كانت تعتلي وجوههم نظرة الشفقة عند رؤيته، وكانوا ينصدمون من وضعه، إلاّ أنّ عدداً كبيراً من النّاس تعوّد عليه، وأحبّه كما هو"، ووصف جو بأنّه "صاحب شخصيّة قويّة، ويتّكل على نفسه، ويعي كيفيّة حلّ مشاكله بمفرده ودون طلب المساعدة. ويسعى لأن يعطي أكثر فأكثر، ولم يسقط في حياته أمام أيّ امتحان مهما كان صعباً، فهو مجتهد ومعطاء ولديه الكثير ليقدّمه".

خفنا قليلاً من جو بسبب وضعه الصحي، إلاّ أنّ ما شجّعنا هو عدد المتابعين الكبير الذي يملكه على انستاغرام، بالإضافة إلى روحه المرحة وقوّة شخصيّته، وكيف يفرض حضوره

عندما تعطى الفرص

من جهته يقول إيلي طبشراني، مدير أحد الملاهي الليليّة الي يلعب فيها جو موسيقاه، في حديثه لموقع "الصفا نيوز" أنّنا "في البداية، خفنا قليلاً من جو بسبب وضعه الصحي، إلاّ أنّ ما شجّعنا هو عدد المتابعين الكبير الذي يملكه على انستاغرام، بالإضافة إلى روحه المرحة وقوّة شخصيّته، وكيف يفرض حضوره، وعلى الرغم من أنّ الرقم الذي طلبه جو بدل إحيائه لسهرة واحدة في المحلّ كان ضرب ثلاث أضعاف الرقم الذي يتقاضاه أيّ "دي جي" كبدل أتعاب، إلاّ أنّنا لم نتردّد من عقد اتفاق معه. وأوّل ليلة أحياها كانت رائعة، وحقّق نجاحا باهرًا، واستقطبنا بسببه عدداً كبيراً من الزبائن، فللرجل جمهوره ومحبّيه، كما أنّه موهوب جدّا، وأصبح واحد من أسرتنا".

واقع ذوي الإحتياجات الخاصّة في لبنان

على المقلب الآخر، يشكّل ذوو الاحتياجات الخاصة نسبة 15% من تعداد السكان في لبنان، ويعاني هؤلاء من ارتفاع البطالة بنسبة تصل لنحو 85% من تعداد تلك الفئة، بحسب تقرير البنك الدولي ومنظّمة الصحة العالمية.

ويطالب ذوو الاحتياجات الخاصة الدولة بالقيام بواجباتها وتفعيل القانون الخاص "بالمعوقين"، وهو يشمل حقّ السكن، التنقل، التعليم، كوتا توظيف في القطاعين العام والخاص بنسبة 3 بالمئة في كلّ منهما، الحقّ في الصحة والبيئة المؤهلة، والإعفاء من بعض الضرائب والخدمات العامة، إضافة إلى الحقوق السياسية والرياضية.

وفي عام 2000 نجحت الجمعيات المعنية، ولا سيّما اتحاد المقعدين في استصدار قانون للدّمج، لكنه بقي "حبرا على ورق".

من جهّته عمل محافظ بيروت مروان عبّود على وضع خطط لتحويل العاصمة إلى مدينة نموذجيّة وبيئة حاضنة لذوي الاحتياجات الخاصّة، إلاّ أنّ الأزمة الاقتصاديّة ضربت أيّ محاولات في هذا المجال.

وفي لبنان هناك أكثر من 100 مؤسسة رعاية منتشرة على كافّة الأراضي اللبنانية، يتمّ فيها رعاية 8500 شخص من ذوي الاحتياجات الخاصة. أمّا حامل بطاقة معوّق فيستفيد من خدمات نصّ عليها قانون المعوّقين والتي يتعلق جزء منها بالإعفاءات وجزء يتعلّق بالحوافز وجزء بخدمات مُعينات والتي هي غالبا كرسي متحرك، أطراف صناعية، سماعات أذن وأمصال، إضافة إلى تقديمات سلف، وهناك مجموعة من التدريبات والأنشطة التي تقدّم داخل مراكز الخدمات الإنمائية، كما هناك سعي لدمج ذوي الاحتياجات الخاصة في المجتمع سواء في المدارس أو مؤسسات الرعاية، إضافة إلى أنّهم يحصلون على رعاية صحّية مجانية في مراكز الخدمات الإنمائية وإذا كان الدواء متوفراً يقدّم لهم.

إلاّ أنّ الأزمة الإقتصاديّة ألقت بظلالها أيضًا على ذوي الهمم في لبنان، الذين عانوا بدورهم من نقص الأدوية، وغلائها، وصعوبة تأمين العلاج المطلوب كسائر اللبنانيين، وغلاء فتورة الإستشفاء. فهذه الطبقة مهمّشة أساسا ومحرومة من حقوقها حتى خلال أعوام الاستقرار السياسي والاقتصادي.

ولم يصدّق لبنان على الاتّفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الاعاقة التي اعتمدتها الأمم المتحدة سنة 2006 وهي أول اتفاقية عالمية لحقوق الاشخاص المعوّقين، والمزعج في الأمر أنّ لبنان شارك بصياغتها من دون أن يصادق عليها حتى اللحظة.

في المحصّلة، وعلى الرّغم من الواقع المرير الذي يعاني منه أصحاب الهمم في لبنان، إلاّ أنّ أمثال جو هم خير دليل على قدرة الإنسان على تحويل الإعاقة إلى طاقة، وعدم الإستلام مهما اشتدّت ظروف الحياة. وتبقى هذه المبادرات الفرديّة، المحفّز الرئيسي لتحريك الرأي العام وحثّ السّلطة على العمل على ملفّ أصحاب الحاجات الخاصّة بجديّة، لينعم هؤلاء بحياة كريمة كسائر البشر.