"الجمعية"، تسعى من النّاحية الاستراتيجية إلى عقد مجموعة من الاتّفاقات لتطوير الأعمال، وفتح المزيد من الآفاق أمام الشباب اللبناني
خرج من رحم الانهيار الاقتصادي مئات الجمعيات التي تهدف إلى تقديم المساعدة المجتمعية تحت راية المنظّمات غير الحكومية، "NGOs".. إلّا أنّ قلّة من الجمعيات جمعت بين الحكمة الصينية "أعط المحتاج صنّارة الصيد، بدلاً من السمكة"، والفلسفة الوجودية "ما أصعب الحياة لولا فسحة الأمل"، كما فعلت جمعية sabro tobo (الأمل الكبير).
البحث عن هذه الجمعية المنشأة في العام 2021، على مواقع التواصل الاجتماعي يقودك إلى العديد من الصور، ومقاطع الفيديو المصوّرة، لروّاد أعمال يستعرضون منتجاتهم، مملوئين بالسّعادة في محترفاتهم. شابات وشبّان من مختلف المناطق، حوّلوا أفكارهم الخلّاقة والمبدعة إلى مشاريع صغيرة مُنتجة، بدعم من sabro tobo. مَغسلٌ حديث. أكواخ وعربات لبيع الطّعام. محلّات لصناعة المنتجات البيتية. قوارب لصيد السّمك. محلّات تزيين وتجميل. ورش للحياكة. مقاهي. أفران. مدارس تعليم... و"اللائحة تطول بما يخطر في بالك، وما لا يخطر"، يقول موريس البعينو مدير عام جمعية "صبرو طوبو"، مشروع Hope Center Lebanon. "إذ لا حدود للأفكار الخلاقة والابتكارية عند الشباب اللبناني. وكلّ ما ينقصهم هو "دفشة" التمويل الصغيرة. وهذا ما نجهد لتأمينه بمصداقية واحترافية عالية جداً في العمل. والأهم بأسلوب جديد يختلف في فلسفته عمّا هو سائد عند جمعيات ومؤسسات تهتم بتوفير التمويل للمشاريع المتناهية الصغر".
الجمعية بالأرقام
بعيداً عن ضجيج المؤسّسات المدنية التي لا تعطِ إلّا أمام الكاميرات، وصخب الجمعيات الخيرية و"صناديق إعاشتها"، التي لا تُغني عن جوع، تعمل sabro tobo بهدوء. وقد موّلت منذ إنشائها ولغاية الساعة أكثر من 179 مشروعاً متناهي الصغر من أصل 350 إلى 500 مشروع بتمويل محصّل قدره 3 ملايين دولار أميركي. ناقلة بذلك 807 أشخاص من ضفّة البطالة والإحباط إلى شاطئ الأمل المملوء بالعمل والإنتاج والنجاح. والمثير للاهتمام أنّ 19.33 في المئة من المشاريع أسستها النساء. وقد بلغت حصّة المشاريع الجديدة التي تبصر النّور للمرّة الأولى 12.5 في المئة.
النتائج المبهرة التي حقّقتها جمعية sabro tobo في وقت قياسي تبدو صغيرة أمام الهدف الكبير الذي تضعه نصب عينيها، وهو الوصول إلى تمويل مجتمعي بقيمة 10 ملايين دولار. وللغاية لا تعتمد الجمعيّة على تمويل جهات وجمعيات متواجدة في سويسرا وفرنسا فقط، إنّما على صندوق يموّل نفسه بنفسه، ويقوم على طريقة عمل جديدة وشفّافة ترتكز على مجموعة من الركائز الأساسية بحسب البعينو، وأهمّها:
- التمويل الرأسمالي لأصحاب الأفكار الجديدة، أو لأولئك الذين تعثّر عملهم بسبب الأزمة، بقيمة تتراوح بين 100- و5000 دولار، من خلال شراء أدوات الإنتاج وليس إقراض الأموال. وذلك بعد الاستحصال على عروض أسعار واختيار الأرخص بطبيعة الحال. وهو الأمر الذي أدّى إلى توفير 50 ألف دولار في أول 150 مشروع.
- إقامة دورات تدريبية للمقترضين على الإدارة المالية في مؤسساتهم. وإرشاد المقترضين على تجنّب الوقوع في فخّ سوء الإدارة عبر عدم فصل حسابات المؤسسة عن حساباتهم الشخصية. وهو الخطأ الذي تقع فيه الأكثرية ويقود إلى إفلاس الأعمال. فجرى تطوير تطبيق ألكتروني لمتابعة المشاريع من قبل فريق متخصّص على مدى أكثر من عام.
- الاسترداد المتناقص. ويشكّل هذا العنصر جوهر عمل الجمعية. فخلافاً لطرق التمويل التقليدية التي تشترط استرداد القروض مقابل فوائد، بغضّ النّظر عن نسبتها، وضعت الجمعية طريقة عمل جديدة ومبتكرة تقوم على إرجاع المقترضين الملتزمين بمبادئ عمل الجمعية والإدارة السليمة، المبلغ ناقص 20 في المئة. بمعنى أنّ المقترض بقيمة 2000 دولار يعيد المبلغ بعد عدد من السنوات المتفق عليها بقيمة 1600 دولار.
فلسفة الاسترداد المتناقص
للوهلة الأولى يظنّ المتابع أنّ عمل الجمعية يشبه "تجارة جحا بالبيض"، وستصل الجمعية إلى نقطة تقلّ فيها مواردها وتتراجع قدرتها على تمويل مشاريع إضافية. إلّا أنّ التمعّن في طريقة عمل الجمعية يثبت عكس ذلك تماماً. فهي ليست مؤسسة تمويل تهدف إلى تحقيق الربح، إنّما جمعية تهدف إلى بناء اللحمة الوطنية، والأمل، ومساعدة المجتمع، وتجذير المواطنين بأرضهم، وخلق فرص العمل، وزيادة النمو والتنمية. ومن هذه الزاوية يبدو ثمن الـ 20 في المئة لتحفيز المشاريع على الالتزام بقواعد الحوكمة الرشيدة والنّموّ، أقل بما لا يقاس من المساعدات العينية التي تقدّمها جهات مختلفة، والتي عادة ما تنتهي في "مجاري الصّرف الصحّي". فـ "الجوع في نهاية المطاف عابر للطوائف وهو لا يميّز بين منطقة وأخرى، ولا يسدّ بالشعارات إنّما بالأفعال"، يشدّد البعينو. "ولا يمكن في نهاية المطاف كسر الحواجز الطائفية والمناطقية، إلّا بخلق مصالح اقتصادية بين أفراد المجتمع. وهذا ما تقوم به الجمعية، ليس من خلال تمويل كلّ محتاج بغضّ النظر عن اسم قريته وعائلته، إنّما أيضاً من خلال صقلهم في بوتقة تنفيعية بين بعضهم البعض، لتحقيق المصالح المشتركة. الأمر الذي يؤدّي إلى كسر الكثير من الحواجز. ولعلّ هذا ما نجحت في تحقيقه أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية والخلافات العميقة بين دولها. كما تشكّل هذه الطبيعة من الإنتاج بدائل عن الاستيراد للكثير من المنتجات، الأمر الذي يخفّض العجز في ميزان المدفوعات وينعكس إيجابا على سعر الصّرف، ما يعني انتفاع المجتمع ككلّ من النموّ وليس منطقة بعينها".
النزاهة تحكم عمل الجمعية
النقطة الثانية التي تعتمد عليها الجمعية لتعويض الاسترداد المتناقص للقروض تتمثّل في استمرار حيازة ثقة الممولين من خلال قواعد الشفافية والنزاهة والمصداقية التي تلتزم بها، وهي ما يعرف بعلم الإدارة الحديث بـ "الحوكمة". فبالإضافة إلى الإفصاح الشفّاف بشكل دوري عن الإيرادات والنّفقات تعمد الجمعية إلى تقليص النّفقات التشغيلية من إيجارات ومصاريف واجور... وخلافه من الأمور التي "تأكل" في غير جمعيات من "صحن" المساعدات. وتبتعد عن المحسوبية. "فما يحدد قبول طلب القرض هو المشروع وقدرته على النجاح ووضع طالب القرض وفرص النموّ بناءً على دراسة الجدوى الاقتصادية للمشروع، وليس أيّ أمر آخر"، يؤكد البعينو. أكثر من ذلك فالنّظام المعتمد، قائم على الشراكة والتنسيق مع مؤسسة فرنسية مرموقة عمرها أكثر من 160 عاماً، وهي الوكالة الفرنسية للتنمية وجمعية “Oeuvre d’Orient” وغيرها من الجمعيات والمؤسسات المرموقة ذات السمعة الحسنة في فرنسا وسويسرا وإيطاليا Hopeوغيرها. وتعتمد الجمعية في طريقة عملها على تقليص النّفقات التشغيلية والإدارية. وذلك من خلال ترشيد الإيرادات ونفقات المكتب والرواتب وغيرها العديد من المصاريف التي تمتصّ في كثير من الجمعيات مبالغ كبيرة من التمويل. وهو ما يبرهن للمموّلين أنّ المبالغ التي تدفع تضخّ في السّوق، وليس في جيوب القائمين على الجمعيّة. وعليه كلّما كان عمل الجمعية يتّصف بالشفافية والفعالية كلما تحمّس الممولون على إعطاء المزيد من الأموال.
"الجمعية"، تسعى من النّاحية الاستراتيجية إلى عقد مجموعة من الاتّفاقات لتطوير الأعمال، وفتح المزيد من الآفاق أمام الشباب. من هذه الاتفاقيات ما سلك طريقه للتنفيذ، على غرار الاتفاق مع واحدة من أهمّ المجموعات التي تستورد الألكترونيات إلى لبنان وتهتمّ بصيانتها. حيث سيعمد أخصائيون من المجموعة إلى تدريب الشباب على صيانة الالكترونيات عبر دورات مدفوعة التكلفة، ليتم من بعدها تمويل فتح مشاغل التصليح. وبهذه الطريقة يتأمّن مورد عمل للشباب، وتخفّ الكلفة على المواطنين الذين يرزحون تحت أكلاف معيشية كبيرة. خصوصاً في ظل تراجع القدرة على شراء الالكترونيات الجديدة نتيجة ارتفاع الأسعار وزيادة الضرائب. وعلى مثال هذه الاتفاقية تحضّر "الجمعية" لاتفاقيات مماثلة مع شركات ومجموعات متخصّصة في إصلاح السيارات والزراعة، وإعادة التدوير.
"صبرو طوبو" التي تزرع الأمل في نفوس الشباب، تأمل من جهتها التواضع عند المقترضين ليس في الأحلام فهي تشجّع عليها، إنّما في تحقيق الأرباح الكبيرة والسريعة.