وقع الباحثون على علاقة بين 3 جينات و3 فئات من القدرات ذات الصلة بالرياضيات
"الرياضيات هي اللغة التي كتب بها الله الكون". هكذا، قبل ما يزيد عن خمسة قرون، اختصر غاليليو غاليلي، عالِم الفلك والفيزيائي والفيلسوف الإيطالي، العلاقة العضويّة بين الرياضيات والكون. بضع كلمات تكتنز الشيء الكثير. والبشر، بوصفهم جزءاً لا يتجزّأ من هذا الكون، معنيّون مباشرة وفي الصميم.
في دراسة نُشِرت في شباط الماضي في مجلة Genes Brain and Behavior، اكتشف خبراء من جامعة "شَنشي" الصينية متغيّرات جينية بدت وكأنّها على علاقة وثيقة بمهارات عِلم الرياضيات لدى الأطفال. وقد قام الخبراء بإخضاع 1146 طالباً من المرحلة الابتدائية لدراسات جينية تمحورت حول 11 فئة من القدرات، من بينها الحساب والتحليل المنطقي والرياضيات التطبيقية. وتبيّن لهم أن 7 متغيّرات جينية أحادية النيوكليوتيدات (Single Nucleotide Genetic Variants) - والنيكليوتيدات مركّبات عضويّة ذات أهمّية بالغة بالنسبة للكائنات الحيّة كونها وحدة البناء للأحماض النووية (DNA) - ترتبط بشدّة بالرياضيات، والقدرات التحليلية تحديداً، لدى الطلاب.
كذلك، وقع الباحثون على علاقة بين 3 جينات و3 فئات من القدرات ذات الصلة بالرياضيات. ومن الأمثلة: ارتباط متغيّرات على صعيد جين LINGO2 بالقدرة على إنجاز عمليات الطرح؛ وارتباط جينات أو مجموعات جينية بعمليات الجمع والقسمة وإدراك الأحجام والمفهوم المكاني. أمّا أبرز المتغيّرات المتعلٌّقة بالقدرات التحليلية المنطقية، بحسب الفريق البحثي، فكان المتغيّر الجيني أحادي النيوكليوتيد rs34034296 المتواجد في ما يُسمّى صحراء جينية – والصحارى الجينية مناطق في الجينوم خالية تماماً من الجينات وتشكّل ما يقارب 25% منه .هنا تجدر الإشارة إلى أن الجين جزء من الحمض النووي ويختصّ ببروتين معيّن أو وحدة وظيفية معيّنة. في حين أن الجينوم هو مجموع محتوى الحمض النووي في خليّة ما، ممثّلاً المادة الوراثية الموجودة داخلها كاملة.
الدراسة الصينية بغاية الأهمية. لكن، إذا كان لمقدراتنا الحسابية جذور جينية، ماذا عن دور الرياضيات في شَرْحِ تركيبتنا الجينية؟ الإجابة تأتي من خلال مجموعة باحثين تمكّنوا من إثبات علاقة غير متوقَّعة بين نظرية الأعداد (Number Theory) وعِلم الوراثة التطوّري في دراسة ظهرت حديثاً في مجلة Journal of The Royal Society Interface.
من المعروف أن نظرية الأعداد، بما هي العصارة الأكثر صفاءً وتجريدية لعِلم الرياضيات، تركّز في المقام الأول على دراسة الأعداد الصحيحة الموجبة وخصائصها، مثل القسمة أو التحليل الأولي أو قابلية حلّ المعادلات في الأعداد الصحيحة. ومن أبرز تطبيقاتها العملية متتالية فيبوناتشي - التي لنا عودة إليها - وتقنيات التشفير المبنية على الأعداد الأولية.
في التفاصيل، تعاوَن فريق مشترَك من جامعات أكسفورد، هارفرد، كامبريدج، الخليج للعلوم والتكنولوجيا، معهد مساتشوستس للتكنولوجيا، إمبريال كوليدج، ومعهد آلان تورينغ، على كشف علاقة عميقة بين خاصيّة جمع الأرقام وميّزة هامة من ميّزات عِلم الوراثة: متانة النمط الظاهري (Phenotype Robustness). والأخير يعني التكوين الظاهري الفيزيائي للكائن الحيّ، مقارنة مع النمط الجيني (Genotype) الذي يشير إلى التكوين الوراثي للخليّة. وهي - أي المتانة، المحفّزة على التنوّع الجيني، المختلفة بين جنس وآخر، والملحوظة داخل البروتينات الخلوية - كناية عن معدّل احتمالية حصول طفرة (Mutation) ما لا ينتج عنها أي تعديل على التكوين الظاهري للكائن الحيّ.
الباحثون توقّعوا أن يكون لاكتشافهم انعكاسات هامة على عِلم الوراثة التطوّري. والحال أن العديد من الطفرات الجينية هي حيادية الطابع، بمعنى أنها تتراكم ببطء مع الوقت دون التأثير على استدامة الأنماط الظاهرية (الشكل الخارجي والسمات والتصرّفات). ذلك على عكس طفرات أخرى تؤدّي إلى تعريض الكائن الحيّ للأمراض، في بعض الحالات، أو إكسابه أفضليات غير متوقَّعة، في حالات أخرى. مع العلم أن البروتينات التي تمّت دراستها أظهرت تساهُلاً مع ثلثَي الأخطاء العشوائية في تسلسلات الترميز، ما معناه أن 66% من الطفرات تكون حيادية الطابع من حيث المبدأ.
كذلك، تساهم الطفرات الحيادية في تغيّر التسلسلات الجينومية بمعدّل ثابت مع الوقت. وهكذا، مع تملّكهم القدرة على تحديد ذلك المعدّل، يمكن للعلماء مقارنة الفَرق النسبي في التسلسل بين كائنَين حيَّين والاستدلال على الحقبة التي عاش فيها آخر أسلافهما المشترَكين. وبالتالي، سيمدّ الاكتشاف أعلاه البحث العلمي المستقبلي بأفقٍ أوسع لناحية كشف بعضٍ ممّا زال خافياً من العلاقة القائمة بين نظرية الأعداد وعِلم الوراثة، كما يعتقد هؤلاء.
ننظر إلى أثر جيناتنا على إمكانيّاتنا في عِلم الرياضيات وإلى أثر الأخير على جيناتنا، والخلاصة واحدة: الرياضيات مكوّن أساسي من مكوّنات الطبيعة، ومن مكوّناتنا نحن والكون استطراداً. هي، بدءاً من المقاييس المجهرية وصولاً إلى تلك المجرّية وما بينهما، ما يعطي للعالم المادي شكلاً بنيويّاً. وهذا يحيلنا تلقائياً إلى متتالية فيبوناتشي. "رمز سرّ الطبيعة" تلك، كما توصف، من توقيع عالِم الرياضيات الإيطالي، ليوناردو فيبوناتشي، في القرن الثالث عشر، حيث يساوي كلّ رقم فيها مجموع الرقمَين السابقَين. وهي تدخل في عمق تفسير العديد من الظواهر في الطبيعة - من الأنماط الحلزونية لبذور الزهور والنباتات إلى تكاوين جسم الإنسان وأنماط الأعاصير وشكل المجرّات.
الغوص في طيّات المتتالية يستدعي بحثاً آخر. إنّما عودٌ على بدء. قبل أكثر من 2500 سنة، خلص فيثاغورس إلى أن الرياضيات هي إحدى لغّتين - الموسيقى ثانيتهما – قادرتَين على شَرْحِ بنى الطبيعة وجوهرها. فيبوناتشي وغاليليو أخبرانا الشيء نفسه، كلّ على طريقته. والأبحاث العلمية المتواصلة تعِدُنا بكشف المزيد.