يبدو أن استراتيجية العزل التي تقودها الولايات المتحدة ضد الصين ناجحة، ويعود ذلك إلى الجهود الدبلوماسية القوية التي تبذلها واشنطن مع العديد من الدّول، وإلى تزامنها مع الانكماش الاقتصادي في الصين
شهدت ولاية ميريلاند الأميركية خلال الشهر الفائت، استضافة زعيمي اليابان وكوريا الجنوبية في منتجع "كامب ديفيد" بدعوة من الرئيس الأميركي جو بايدن لإجراء محادثات أمنية مشتركة لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ. واختتم القادة القمّة ببيان مشترك تعهدوا فيه بالرّد على التحدّيات والتهديدات التي تمسّ بمصالحهم وأمنهم من أيّة جهة كانت، وذلك من خلال تبادل المعلومات وتنسيق العمل في ما بينهم. وبالنّظر إلى العلاقات المتوتّرة بين كوريا الجنوبية واليابان التي تعود إلى نزاعات موروثة منذ أن كانت شبه جزيرة كوريا مُستعمرة يابانية خلال الفترة (1910-1945)، فإنّ التوصّل إلى عقد اجتماع بين الدولتين وبرعاية أميركية يُعد إنجازاً مهماً.
بكلّ بساطة، أنّ هدف "واشنطن" من استضافة "طوكيو" و"سيول"، هو إنشاء شبكة تحالفات دوليّة، لاحتواء "الصّين" المنافس الجيوسياسي الرئيسي لأميركا في العالم، خصوصاً وأنّ الصين هي القوّة الوحيدة التي لديها "الرّغبة" و"القدرة" بتشكيل نظام بحري جديد في المحيطين الهندي والهادئ، وهذا تحديداً ما لا ترغب به الولايات المتحدة كونه سيؤثّر سلباً عليها، لكن حتّى الآن، يبدو أنّ النهج الأميركي المُعتمد لعزل الصين ناجح إلى حدّ ما.
هدف "واشنطن" من استضافة "طوكيو" و"سيول"، هو إنشاء شبكة تحالفات دوليّة، لاحتواء "الصّين" المنافس الجيوسياسي الرئيسي لأميركا في العالم
خلال شهر أيار من العام الحالي، اتّفق رئيس الوزراء الياباني "فوميو كيشيدا" ورئيس كوريا الجنوبية "يون سوك يول" على العمل معاً على تحسين العلاقات بين بلديهما لمعالجة التهديدات الإقليمية المتنامية في المنطقة، خصوصاً وأنّ كوريا الشمالية تعمد إلى تطوير أسلحتها النووية باستمرار. وبعد هذا التعهّد، صرّح ولأكثر من مرّة كلّ من "كيشيدا" و"يول" على أنّهما "شركاء"، وقال "يول" إنَّ القضايا التاريخية بين البلدين يجب ألّا تعيق العلاقات المصيرية الأعمق والأهمّ. نتيجة لذلك، وخلال شهر حزيران الفائت أعلنت "اليابان" أنّها ستُعيد "كوريا الجنوبية" إلى لائحتها للشركاء التجاريين الأساسيين، لترفع بذلك القيود عن النّزاع التجاري الذي دام لأكثر من عام. فهل يمكن لكلا البلدين العملاقين والمنافسين في الصناعات الألكترونية أن تتوصّلا إلى شراكة ثنائية؟ يبدو جلياً أنّ "الولايات المتحدة" نجحت بتقريب وجهات النّظر بين "اليابان" و"كوريا الجنوبية"، وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ قناعة راسخة لدى كلّ من "طوكيو" و"سيول" بأنّ تحالفهما الوثيق مع "واشنطن" تحت مظلّة أمنية أميركية موحّدة، سيعزّز قدراتهما لمواجهة النّفوذ الصيني في المنطقة، والأهمّ، ردع تهديد زعيم كوريا الشمالية "كيم جونغ أون"، لذلك عمدتا إلى فصل خلافاتهما القديمة عن أهدافهما الاستراتيجية وخصوصاً الأمنيّة منها. وبذلك، فإنّ "طوكيو" و"سيول" سيشكّلان حجر الزاوية في تحالف أمني بقيادة "واشنطن" في المحيطين الهندي والهادئ.
البحر المتفرّع من المحيط الهادئ في جنوب الصين
تعدّ أستراليا القريبة من بحر الصين الجنوبي، عنصراً حيوياً آخر في استراتيجية التحالف الأميركي منذ فترة طويلة، لكنّ المسافات الشاسعة التي تفصل أستراليا عن أميركا، أجبرت "كانبرا" على زيادة مشاركتها في التحالفات الإقليمية. وتتركّز سياسة الدفاع الأسترالية الآن بشكل أكبر على استعراض القوّة والردع خصوصاً بعد توقيع اتفاقية "أوكوس" مع "واشنطن" التي تحوي ضمن بنودها حصولها على غواصات تعمل بالدفع النووي، بالإضافة الى تزويدها بصواريخ " توماهوك"، وهذا ما جعلها تلغي صفقة الأسلحة مع فرنسا، وتعمد إلى:
- تجهيز قواعد للقوّات الجوية في الشمال.
- التواصل والتنسيق مع اليابان وكوريا الجنوبية والفليبين، تماشياً مع خطة الاحتواء التي تتبنّاها الولايات المتحدة. وقد أجرت أستراليا والفليبين في نهاية شهر آب من العام الحالي أول مناورات بحرية مشتركة بينهما.
- تخصيص ميزانية بنحو مليار دولار لإنفاقها على:
1- تحديث البنية التحتية الأمنية في المحيط الهادئ.
2- تطوير القاعدة البحرية في "لومبرم" في بابوا غينيا الجديدة.
3- بناء أرصفة جديدة في جزر المحيط الهادئ.
4- تعزيز التدريبات البحرية وتبادل الخبرات.
5- دعم القوات الجوية في "بابوا غينيا الجديدة" و "فيجي".
6- تحديث وزيادة عدد زوارق الدوريات الأسترالية في المحيط الهادئ.
من أجل تعزيز ما قامت به أستراليا في المحيط الهادئ، أرسلت الولايات المتحدة الأميركية وزير دبلوماسيتها "أنتوني بلينكن" خلال شهر أيار من العام الحالي لإجراء محادثات مع القيادة العليا لدولة "بابوا غينيا الجديدة"، حيث صرّح بأنّ الولايات المتحدة ستعمد الى برمجة إنفاق 7 مليارات دولار على مدى 20 عاماً لجزر مارشال وبالاو وولايات ميكرونيزيا الموحّدة مقابل تجديد اتفاقياتها الأمنية مع واشنطن. وبموجب هذه الاتفاقيات، أنشأت الولايات المتحدة قواعد بحرية ولوجستية في الدول الجزرية الثلاث، لضمان عدم انجرارها إلى فلك الصين.
حتّى الآن، يبدو أن استراتيجية العزل التي تقودها الولايات المتحدة ضد الصين ناجحة، ويعود ذلك إلى الجهود الدبلوماسية القوية التي تبذلها واشنطن مع العديد من الدّول، وإلى تزامنها مع الانكماش الاقتصادي في الصين. وقد تبيّن أيضاً أنّ لائحة حلفاء "بكين" المقربين بدأت تتقلّص، فمنها من بدأ ومنها من سيبدأ بالانسحاب من هذا الفلك للبحث عن فرص أفضل لتحسين اقتصادها مع واشنطن وحلفائها. فقد وافقت إندونيسيا أخيراً على تعزيز العلاقات الدفاعية مع الولايات المتحدة في إطار استعدادها لإجراء تدريبات عسكرية مشتركة في وقت لاحق. أمّا بالنسبة لفيتنام، فمن المتوقّع أن يزورها الرئيس "بايدن" في أعقاب قمّة مجموعة العشرين التي ستعقد في الهند في التاسع من الشهر الجاري ولمدّة يومين، ومن المتوقّع أن يرفع الرئيس "بايدن" العلاقات الثنائية بين البلدين إلى شراكة استراتيجية شاملة. وفي الوقت نفسه، شاركت ماليزيا وسنغافورة في التدريبات التي قادتها الولايات المتحدة هذا الصيف.
يبدو أنّ "الولايات المتحدة الأميركية" تعزز انتشارها العسكري لتطويق "الصين"، حيث كانت "واشنطن" قد صنّفت "بكين" كأخطر تحدٍ جيوسياسي لأمنها القومي، أمّا "موسكو" فقد صنّفتها على أنها تهديد أمني ليس أكثر.
يبدو أنّ وجود عدو مشترك، هو أفضل وسيلة لجمع الدّول معًا كما حصل في المحيطين.