تحاشى كلّ زعماء التّجمّع الجديد أيّ تلميح إيديولوجي ضدّ الرأسمالية والاقتصاد الحرّ والملكيّة الفرديّة، ولم يشر أيّ منهم إلى هويّة اقتصادية جديدة بديلاً عن الهويّة الرأسماليّة
يحلو للبعض اليوم بعد نجاح قمة "البريكس" الأخيرة في جوهانسورغ بضم ستّ دول جديدة إلى تجمّعها، أن يصف ما حدث بانّه مشروع متقدّم نحو بناء تكتّل اقتصادي عالمي جديد في مواجهة مجموعة السّبع الصناعيّة الكبرى التي تضمّ الدول الغربية الكبرى، الأمر الذي قد يمثّل إعادة لمشهد الحرب الباردة بوجود قطبين عالميين كبيرين يتنافسان على المصالح والنّفوذ ويقدّمان رؤيتين متعارضتين للعلاقات الدّوليّة والتنمية البشريّة.
وجاءت هذه الفرضيّات من واقع أنّ القمة جاءت في وقت تراجعت فيه شهيّة الكثير من دول العالم في الهرولة إلى الغرب الذي يسيطر على الاقتصادات النّامية، لتفتح المجموعة نافذة أمل جديدة ومسارات هجرة نحو التكتّل الصاعد. وبالفعل فإنّ هذه المجموعة التي تتوسّع يمكن أن تولّد نحو نصف الإنتاج العالمي بحلول 2040، في المقابل، فإنّ إسهام مجموعة السّبع من النّاتج المحلي الإجمالي العالمي ستنخفض إلى الرّبع، وهو ما يمثّل فعليّاً انهيارًا لحصّتها التي بلغت 45 في المئة قبل 15 عاماً.
لكن مهلاً فإنّ هذا التغيير الكبير لا يعني بالضّرورة عودة إلى الثّنائية التي كانت قائمة قبل انهيار الاتّحاد السوفياتي في أواخر القرن الماضي. آنذاك كانت الأيديولوجيا سمة رئيسية من سمات الصّراع الكوني في القطبين الشّرقي والغربي في زمن الحرب الباردة. الاتحّاد السوفياتي وشركاؤه في حلف وارسو كانوا يتبنّون الاشتراكية العالمية وتحكّم الدّولة بالسّوق ومبدأ الصّراع الطّبقي وحقوق العمّال المنبثقة من الأفكار الماركسية فلسفة ونهجاً اقتصادياً واجتماعياً يناضلون من أجل قيمه. الولايات المتّحدة وحلفاؤها الغربيّون في حلف شمال الأطلسي في المقابل، اعتمدوا الاقتصاد الرأسمالي الحرّ والليبرالية والملكيّة الخاصّة وتكريس الحرّيّة الفرديّة نهجاً اقتصادياً واجتماعياً معتمداً في مواجهة خصومهم.
هذا التغيير الكبير لا يعني بالضّرورة عودة إلى الثّنائية التي كانت قائمة قبل انهيار الاتّحاد السوفياتي في أواخر القرن الماضي
اليوم تحاشى كلّ زعماء التّجمّع الجديد أيّ تلميح إيديولوجي ضدّ الرأسمالية والاقتصاد الحرّ والملكيّة الفرديّة، ولم يشر أيّ منهم إلى هويّة اقتصادية جديدة بديلاً عن الهويّة الرأسماليّة وإنّ جلّ ما يسعون إليه هو المحافظة عليها، ولكن من خلال عولمة جديدة أكثر عدلاً، يحظى الجميع فيها بفرص أفضل من حيث عوائد النّشاط الاقتصادي العالميّ؟
كلّ الكلمات التي ألقيت في القمّة، بما فيها كلمة خصم الغرب الأول الرئيس فلاديمير بوتين التي ألقاها عبر الفيديو؛ ركّزت على سلبيات الممارسة الأميركية، وسيطرة الدولار، وعرضت لحلول كانت بمثابة تغيير أدوات، مثل مناقشة أن يكون لـ"البريكس" عملة موحّدة، أو زيادة توسيط العملات المحلّيّة في التّجارة الدّولية بين دول التكتّل. لكنّها كلها لم تتطرّق إلى حلول اشتراكية أو ماركسية للقضايا الاقتصادية والاجتماعية المطروحة، كما لم نسمع عن مواجهة بين نموذجين اقتصاديين متضادّين، بل جُلّ ما هو مطلوب تعديل النموذج القائم في ضوء أدواته ووسائله. ولم يرد أيّ ذكر لقضايا العمل والعمّال، ولا لطرح أن تكون الصّفقات المتكافئة بدلاً للتسويات الماليّة بالدولار، ولا بإثارة قضايا علاقات العمل والإنتاج، أو العدالة الاجتماعية، التي تثار في إطار معسكر النظام الاشتراكي. وتالياً فخيار ترك الرأسمالية بالنّسبة لدول "البريكس"، أمر مستبعد، في ظلّ غياب طرح هوية اقتصادية بديلة، ووجود أعضاء كالهند والسعودية والإمارات جوهر أنظمتها السياسية لا يحتمل أيّ طرح اشتراكي.
ومع ذلك فإنّ قمّة جوهانسبورغ تبقى مثيرة للقلق في دوائر صنع القرار في الغرب، ذلك أنّ "البريكس" لم تعد كما كان يراها الاستراتيجيون الغربيّون مجرّد جزء من العولمة تختزل في سلاسل التوريد، ومكان للشركات متعدّدة الجنسية التي يستخدمها الغرب لتصنيع منتجاته بتكلفة منخفضة، فقد تغيّر الوضع وأصبحت الصّين الآن ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وتسير الهند على خطاها. واكتسبت بلدان الجنوب زخماً في كلّ مكان، بحيث يمثّل ناتجها المحلّي الإجمالي المشترك الآن حوالي 40 في المئة من النّاتج المحلّي الإجمالي العالمي، وتلك قوّة آن الأوان للاعتراف بها، بدل اختزالها في النظرة القديمة التي لا ترى فيها سوى قوى لتزويد الاقتصاد العالمي بما يحتاجه.
فهل سيدرك الغرب أخيراً أنّ الشرق والجنوب قد تغيرا كثيراً وأنّ دولهما أصبحت الآن قادرة على تحرير نفسها من الشمال والغرب؟ والجواب عن مثل هذه الأسئلة مرهون بالطريقة التي سيتعاطى بها المعنيّون مع الموضوع، لكن هناك حقيقة واحدة صارت شبه مؤّكدة وهي أنّ النظام العالمي الذي تأسّس منذ نحو 80 عاماً قد بدأ يتغيّر الآن ليقوم مكانه نظام جديد، لكنّه لا يشبه بالضرورة نظام القطبية الثنائية الذي انتهى ولن يعود. ويبقى الأمل في قيام نظام متعدّد القطب لا تهيمن فيه أيّ قوّة واحدة ويضمن المشاركة الكاملة للبلدان النّامية في هيئات صنع القرار.
وهكذا يمكن لـ "بريكس" أن تكون جسراً بين البلدان الصناعية والنّامية من أجل التنمية المستدامة وسياسة اقتصادية دوليّة أكثر توازناً.