بعد مرورِ ما يُناهز الأربعة أعوام على بدء حراك 17 تشرين، تُظهر أرقام التنّمية البشريّة أنّ لبنان دخل مسارًا خطرًا جدًا مع أرقام تجعل من لبنان بؤرة فقرٍ حقيقية تحتاج – أغلب الظنّ لعقود – لمحو آثارها
كلّ الأرقام الإقتصادية والمالية والنّقدية التي تظهر يومًا بعد يوم، تُثبت أنّ لبنان يعيش أزمةً حادّةً وصفها البنك الدوليّ على أنّها الأزمة الإقتصادية الأعنف منذ أكثر من قرن. وإذا كان الإعتقاد لدى الرّأي العام أنّ الأصعب في هذه الأزمة قد مرّ، إلّا أنّ الحقيقة المرّة أنّ الأزمة قد تسوء أكثر خصوصًا أنّ الأزمة السياسية – سبب ما وصل إليه لبنان – تستمرّ وبدون سقف.
بعد مرورِ ما يُناهز الأربعة أعوام على بدء حراك 17 تشرين، تُظهر أرقام التنّمية البشريّة أنّ لبنان دخل مسارًا خطرًا جدًا مع أرقام تجعل من لبنان بؤرة فقرٍ حقيقية تحتاج – أغلب الظنّ لعقود – لمحو آثارها. فأرقام برنامج الأمم المتّحدة للتنمية تُظهر أنّ المجتمع اللبناني تراجع على الصّعد الإقتصادية والإجتماعية والبيئية التي تُشكّل أسس التنمية المُستدامة.
ومفهوم التنمية هو مفهوم تمّ وضعه لوصف أو تعريف ما يُسمّى بـ "التقدّم البشري". فالباحث الفرنسي "فرونسوا برّوو" عرّف التنّمية على أنّها "مزيج من التغيرات العقلية والاجتماعية لدى السكان التي تجعلهم قادرين على تنمية منتجهم الحقيقي والإجمالي بشكل تراكمي ومستدام". في حين أنّ برنامج الأمم المُتحدة للتنّمية عرّفها على أنّها "توسيع نطاق الفرص المتاحة للإنسان".
وإذا كان الإعتقاد السّائد قبل سبعينيات القرن الماضي أنّ التنّمية تعني رفع الدّخل القوميّ للفرد وعلى أساسه تمّ تصنيف الدّول إلى أربع فئات (البلدان مرتفعة الدّخل، الشريحة العليا من البلدان متوسّطة الدخل، الشّريحة الدّنيا من البلدان متوسّطة الدخل، البلدان منخفضة الدّخل)، إلّا أنّ الأرقام الوافدة من الدّول – خصوصًا الأفريقية منها – أثبتت أنّ مُعدّل نصيب الفرد من إجمالي الدّخل القومي لا يعني أنّ هناك تنمية ولا توزيع عادل للثروات على أساس المُساهمة في اللعبة الإقتصادية وهو ما ينسحب تلقائيًا على الشقّ الإجتماعي من طبابة وتعليم وأكل وشرب، وعلى الشقّ البيئي.
عملياً الأرقام الصادرة عن برنامج الأمم المُتّحدة للتنّمية بخصوص لبنان ما قبل وبعد الأزمة التي تعصف بلبنان مُقلقة جدًا. إذ أنّ الإنحدار الإقتصادي والإجتماعي والبيئي أصبح حقيقة مُثبتة بالأرقام (أنظر إلى الرسم). فمثلًا مُتوسّط العمر المتوقّع عند الولادة هبط من 79.24 سنة في العام 2019 إلى 75.05 في العام 2021، كما أنّ متوسّط مدّة الدراسة إنخفضت من 13.29 سنة في العام 2011 إلى 11.29 سنة في العام 2021. أمّا نصيب الفرد من الدخل القومي (PPP)، فقد تراجع من 19248 دولارًا أميركيًا في العام 2010 إلى 14377 دولارًا في العام 2019 و9525 دولارًا في العام 2021.
من ناحيته، تراجع مؤشّر التنمية البشرية من 0.771 في العام 2011 إلى 0.745 في العام 2019، ليواصل انخفاضه ويصل إلى 0.706 في العام 2021 وهو ما يجعل لبنان تحت المعدّل الدولي البالغ 0.732. المنحنى الإنحداري لمؤشر التنّمية البشرة يجعل من لبنان بلدًا ذات مخاطر إجتماعية عالية جدًا، ستدّفع حكمًا العديد من أبنائه إلى الهجرة القصرية لأسباب إقتصادية.
كل هذا نتاج غياب سياسة تنموية في لبنان والتي تتحمّل مسؤولية غيابها الحكومات المتُعاقبة على لبنان.
تقرير منظّمة الإسكوا التابعة للأمم المُتحدة والصادر منذ عام، تحدّث عن فقر عام بأكثر من 70% من العائلات، وأكثر من 80% فقر مُتعدّد الأبعاد، مع 40% من العائلات التي تعيش فقرًا مُدقعًا (أقلّ من 2.13 دولارًا أميركيًا في اليوم). والأصعب بإعتقادنا هو عمق الفقر الذي يتغلّغل يومًا بعد يوم في المُجتمع، ويُلزم العديد من الأسر على تغيير نمط حياتهم اليومية ويُعيدهم إلى سنين سابقة من الممارسات الإجتماعية التي إختفت خلال فترة العقد الأول من الألفية الحالية.
كل هذا نتاج غياب سياسة تنموية في لبنان والتي تتحمّل مسؤولية غيابها الحكومات المتُعاقبة على لبنان. في كلّ مرّة كان يطلب برنامج الأمم المُتحدة للتنمية تقريرًا عن أهداف التنمية المستدامة (SDGs)، تعمد الحكومة إلى إرسال تقرير لا يمتّ إلى الواقع بصلة بحكم أنّ التنمية التي حصلت خصوصًا ما بين العامين 2005 و2010 هي نتاج تدخّل المؤسسات الأممية (مثل البنك الدولي من خلال تمويله مشاريع تنموية، واليونيسف من خلال التعليم...) ومن خلال تثبيت سعر صرف العملة، ولم تكن نتاج آليّة " بواسطة ومن أجل" الشّعب كما نصّ عليه برنامج الأمم المُتحدة للتنمية. ويُحدّد هذا الأخير أربعة عناصر أساسية لهذه الآلية:
أولًا – الإنتاجية والتي هي عمليّة تراكم للثروة من خلال الإنتاجية؛
ثانيًا - العدالة الاجتماعية والتي تنصّ على تقاسم الثّروات المُتراكمة مع أوسع شريحة من المجتمع وهو ما يرفع من مستوى التنمية؛
ثالثًا – الاستدامة حيث يجب أن تأخذ عملية التنمية بعين الاعتبار الأجيال القادمة؛
رابعًا - بواسطة ومن أجل الشعب حيث تكون التنمية نتاج عمل من قبل الشعب ومن أجله دون مساعدة خارجية.
كلّ هذا لم تقم به الحكومات المُتعاقبة حيث لم تضع أمام الشعب الإمكانيات التي تجعله يغذّي آلية التنمية من خلال عمله اليومي، بل جلّ ما حصل هو تفعيل الزبائنية السياسية والتغطية على الفساد الذي يُعتبر العدوّ الأوّل للتنمية. وبالتالي تتحمّل هذه الحكومات مسؤولية ما وصل إليه لبنان من تراجع في مستواه الإجتماعي والإقتصادي والبيئي.
اليوم أصبح من الضروري القيام بوضع آلية صحيحة مع خارطة طريق واقعية ومنطقية بمساعدة برنامج الأمم المُتحدة للتنمية والمؤسسات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وذلك رأفة بالشعب اللبناني. وبإعتقادنا آن الآوان لتقوم الأمم المُتحدة بتعديل شرعة حقوق الإنسان لجعل كلّ مسؤول في أيّ بلد كان، عرضة لعقوبات دولية في حال خالف أو قام بأخذ قرارات أو مشاريع تُناقض أهداف التنمية المُستدامة.
لبنان على طريق الإنحدار السريع إجتماعيًا كما تُظهره أرقام الأمم المُتحدة، لذا من الضروري وضع خطّة إنمائية تبدأ بإصلاحات (مالية، نقدية، إقتصادية) بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، وإقامة مشاريع إنمائية بالتعاون مع البنك الدولي والمؤسسات الإنمائية الأخرى، وكلّ ذلك بمساعدة من قبل برنامج الأمم المُتحدة للتنمية.