عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية لم تغيّر أحوال بلاد الشام. الأزمة المعيشية إلى تفاقم، الانهيار الاقتصادي في تصاعد، الأفق السياسي لايزال مسدوداً.

أوضاع السوريين تدهورت بشكل غير مسبوق، لاسيّما بعد رفع الدّعم عن المواد الأساسية. الليرة السّورية تنافس شقيقتها اللبنانية في انخفاض قيمتها. زيادة الرواتب تآكلت مع ارتفاع التضخّم، فازداد الفقراء فقراً واتّسعت شرائحهم لتطاول معظم المنتمين إلى الطبقات المتوسّطة وازداد تجّار الحرب الكبار فجوراً.

هذا الواقع، أطلق موجات جديدة من الاحتجاجات الشعبية، أخطرها تلك التي شهدتها محافظة السويداء التي تتميز بوضع خاص أمني وإداري وخدماتي. هذه الاحتجاجات لم تقتصر على الأطراف بل بلغت عمق مناطق النظام في الساحل والجبل. وترافقت مع دعوات إلى اعتصامات وإضرابات وتوزيع منشورات، جاء الردّ عليها باستنفار أمني غير مسبوق ومساعي حثيثة للتهدئة لم تثمر.

وقاد انسداد آفاق المستقبل إلى ظهور حركات شبابية جديدة سرّية، كـ"حركة 10 آب"، وإعادة احياء بعض المجموعات القديمة على غرار"حركة الشغل المدني" في الساحل، و"المجلس العسكري" الذي يقوده العميد مناف طلاس، وكذلك نشاط ملحوظ لـ"حزب اللواء السّوري" في الجنوب، وتجدّد الدعوات إلى إقامة إدارة ذاتية تشمل السويداء ودرعا، تضمّ قوات مكافحة الإرهاب بدعم أميركي أردني.

لكن هذا الحراك الجديد يواجه بدوره تحدّيات جمة، أهمّها قدرته على إقناع السوريين بفائدة حراكه و"نظافته" وغاياته، لاسيما بعدما أمعنت المعارضة السابقة في حراكها عام 2011 في تخريب مشهد الانتفاضة السلمية عبر التشجيع على الانقسام العمودي والتطييف والأسلمة والفئوية، واستدراج التدخّل الخارجي والإرهاب والتسليح، الأمر جعلها تأكل أولادها وتفتك بنفسها، ويجعلها النظام شمّاعة لفرض اجندته الأمنية وقبضته الحديدية وتخويف العالم منها. ولعلّ ما يستوجب الحذر هو ظهور أجندات خارجية في بعض التحرّكات، كتلك التي تنشط في الجنوب السوري مطالبةً بالإدارة الذاتية، وتندّد في بيانها بالسيطرة الرّوسية على الثروات السورية، وتقبل بسيطرة الأميركيين عليها في شرق الفرات.

هذا الواقع، أطلق موجات جديدة من الاحتجاجات الشعبية، أخطرها تلك التي شهدتها محافظة السويداء التي تتميز بوضع خاص أمني وإداري وخدماتي

وفي أيّ حال ليس في مقدور أيّ حراك حتّى ولو كان بحجم انتفاضة، أن يحدث تغييراً سياسياً في ظلّ الوضع السوري المركّب والشديد التعقيد، في ظلّ تعّدد الاحتلالات ومناطق النفوذ. سوريا اليوم مقسّمة إلى ثلاث دويلات، وقد هجرها نصف شعبها، وثلثه صار خارج البلاد، ودمر اقتصادها وبنيتها التحتية، ويتمركز في أراضيها أكثر من خمس جيوش أجنبية. أميركا التي يسيطر جيشها على الجزء الشمالي الشرقي من البلاد أعادت النّظر بقرارها المتعلق بترك الشرق الأوسط. وقد نشرت مقاتلات من طراز "إف-16" وأخرى من طراز "إف-32" في المنطقة، وزادت من اهتمامها العسكري بسوريا باستقدام تعزيزات من العراق بعد الاحتكاكات مع الروس في منتصف الشهر الماضي (تموز)، في انعكاس للحرب في أوكرانيا. وحذّرت دول الخليج من الغلوّ في التطبيع مع دمشق ملوّحة بسلاح العقوبات. وأظهرت النقاشات بين الوزراء العرب والوزير السوري فيصل المقداد، الفجوة الكبيرة والبطء الشديد للتقدم فيه. ذلك أنّ الورقة العربية - الأردنية المعروفة باسم "خطوة مقابل خطوة"، والتي سلّمت إلى دمشق وتضمّنت المطلوب منها والمعروض عليها، وأهمّها اجراء إصلاحات سياسية في الانتخابات البرلمانية المقبلة في مقابل تخفيف العقوبات الغربية، جبهت برفض سوري لأيّ شروط ملزمة.

كذلك أعادت واشنطن فتح القنوات التي كانت مغلقة مع انقرة، وفي الصميم منها إيجاد حلّ لعقدة "الإرهاب الكردي" في شمال شرق سوريا لتركيا، في مقابل انخراط تركي أكبر في المخطط الأميركي لسوريا. ومن شأن هذا التقارب عرقلة المساعي الروسية لتأهيل نظام الرئيس بشار الأسد. ورغم الحديث عن صفقة أميركية - إيرانية تطلق بموجبها طهران محتجزين أميركيين مقابل إلغاء تجميد أموال لإيران، قيل انها قد تكون بداية لتوافق بين الطرفين في شأن سوريا، إلّا أنّ السعي الأميركي لوصل منطقة التنف الحدودية بشرق الفرات، واستقدام مقاتلين عرب موالين لسوريا في الشمال لهذا الغرض، يعني أنّ واشنطن ستظلّ تستخدم سياسة العصا والجزرة مع طهران. ويعزّز ذلك تكثيف الضربات الإسرائيلية ضد القوافل والمقرّات الإيرانية في سوريا، لاسيّما في دير الزور.

واقع الحال أنّ رحلة سوريا والسوريين على طريق الجمر لاتزال طويلة وشاقّة في انتظار معجزة.