تستأثر أخبار الحروب والمعارك وانتشار الأوبئة بالاهتمام والمتابعة، وتكاد أخبار بدعة فنّية من هنا أو فضيحة من هناك أن تتصدّر عناوين الشاشات ونشرات الأخبار، فيما تغيب أخبار أحد أهم التحديات التي تواجهها البشرية مع تزايد عدد السّكّان في العالم وتغيّر المناخ، إنّه الأمن الغذائي.

مفهوم الأمن الغذائي:


الأمن الغذائي يتمثّل في قدرة سياسة كلّ بلد الحصول على الغذاء وبكميات كافية لجميع القاطنين فيه، ليضمن كلّ فرد نمواً ونشاطاً كافيين وصحّة جيدة. وهذا الأمر ليس فقط مسألة إنتاج، لكنّه يشمل أيضًا وجوب وضع أطر للسياسات العلمية في التخطيط الإنمائي الوطني للوصول إلى الغذاء واستخدامه بطريقة صحيحة. لكنّ تحديات كثيرة تواجه منظومة الأمن الغذائي العالمية، نذكر أهمها:

- التحدي الديموغرافي: تقديرات الأمم المتحدة تشير إلى أنّ العالم سيشهد زيادة في عدد السكان ستصل إلى 9.7 مليار نسمة بحلول عام 2050، وهذا يطرح تحدّيات كبيرة من أجل توفير الغذاء لجميع سكّان العالم.

- التغيّر المناخي: تأثيرات التغيير المناخي والجفاف الحاصل في بعض البلدان النّامية وندرة المياه وتراجع منسوب الأمطار وتساقط الثلوج، وزيادة حصول الكوارث الطبيعية وغيرها، جميعها تهدّد المحاصيل الزراعية وتقلّل من إنتاج الغذاء، ممّا يهدّد سلامة الأمن الغذائي.

- انخفاض كبير في استعمال الأراضي الزراعية: التوسّع الحضري السريع والتصحّر في الكثير من البلدان، على حساب الأراضي الزراعية المتاحة للاستعمال، ما يقلل من القدرة على الإنتاج الغذائي.

- فقدان التنوع البيولوجي: وهذا يعني الاعتماد على عدد أقل من أنواع المحاصيل، مما يزيد من الضعف أمام الآفات والأمراض. التي تفتك بالمحاصيل، وتسبّب في تغيير عادات الزراعة والإنتاج.

- التباطؤ الاقتصادي العالمي: وهو ما يدفع البلدان المتقدّمة إلى الاستثمار في البلدان النامية، وخاصّة في أفريقيا التي تعتبر ثاني أسرع المناطق الحضرية في العالم بعد آسيا. وهو الأمر الذي يهدّد بضرب هويّة البلدان المستهدفة بالاستثمارات التي تهدف غالباً إلى السيطرة على مواردها الطبيعية وخيراتها مقابل حداثة تفتقر إلى الغذاء.

- الحروب والنزاعات وموجات الهجرة: أدت الحروب والنزاعات إلى تدمير وإتلاف مساحات واسعة من الأراضي الزراعية وقضت على محاصيل كبيرة، كما أنّها أضرّت بخصوبة التربة وحوّلتها إلى أراضٍ غير منتجة. كما أنّه من نتائج الحروب موجات الهجرة الواسعة التي طالت المزارعين ما أدى إلى تراجع في المحاصيل الزراعية الوطنية.

- الأمراض والأوبئة والآفات: كان لجائحة كورونا تأثيرها الكبير على البشرية جمعاء وهي التي ضربت قطاعات إنتاجية واسعة يمكن إدراج الزراعة والغذاء ضمنها. ولا بد من الإقرار بأن الضرر الأكبر لانتشار الأوبئة يضرب الدول الفقيرة التي لا تملك نظاماً وقائياً مناسباً ولا العلاج واللقاحات بالسرعة المطلوبة والكلفة المعقولة. كما أنّ الآفات التي ضربت وتضرب المزروعات أدّت إلى الإضرار بتركيبتها وخصائصها ما يهدّد بضرب وتخريب هوية العديد من المزروعات.

- عمليات التنقيب عن النفط والغاز: في بعض الأحيان، تتم عمليات التنقيب عن النفط والغاز في المناطق التي كانت سابقًا أراضي زراعية، وهذا يمكن أن يؤدي إلى فقدان الأراضي القابلة للزراعة ويقلل من إمكانية إنتاج الغذاء. كما تؤدّي عمليات التنقيب والاستخراج إلى تلوث المياه الجوفية أو المياه السطحية، مما يقلل من جودة المياه المستخدمة في الزراعة. عمليات التنقيب قد تؤدي إلى تغييرات بيئية تأثر على الموارد الطبيعية المحيطة، مما يضر بالنظام البيئي ويؤدي إلى انخفاض الإنتاج الزراعي.

- النزوح من الريف: نزوح السكان من المناطق الريفية الزراعية إلى المناطق الحضرية والمدن بحثًا عن فرص عمل يقلّل من العمالة الزراعية.

أمام كلّ هذه التحدّيات والمخاطر التي تهدّد الأمن الغذائي للبشرية جمعاء تحضر نظرية المؤامرة التي تتحدّث عن مشاريع للتخلّص من أعداد كبيرة من البشر في سبيل الحفاظ على التوازن بين مصادر الغذاء والماء والنمو السكاني. بين نظرية المؤامرة والواقع الراهن الأكيد، هو أن أمننا الغذائي بخطر محدق ما يستدعي البدء بالعمل سريعاً للتصدّي لهذا المسار الإنحداري على مستوى العالم، حيث يجب العمل سريعاً لتحديد ماهية الحلول المستدامة التي يمكن أن تُسهم في إطالة عمر البشرية وتحقيق توازنها المطلوب على صعيد الغذاء العالمي، قبل أن تحلّ المجاعة بكلّ أصقاع الأرض ولو على مراحل.


في ما يلي يقترح العديد من العلماء بعض الحلول التي يمكن أن تسهم في المساعدة على تطوير منظومة الأمن الغذائي العالمية، أهمها:

- تحسين تقنيات الزراعة: تبنّي التكنولوجيا الحديثة والمتقدمة، على سبيل المثال لا الحصر: تقنيات تعديل الجينات لإنتاج محاصيل مقاومة للآفات والأمراض. ومواءمة طبيعة المزروعات مع طبيعة التربة بحيث تكون المعالجات مدروسة وملائمة لظروف كل مسطح زراعي.

- الزراعة المستدامة: تطبيق ممارسات زراعية مستدامة ومتقدمة تحافظ على جودة التربة وتقلّل من استخدام الموارد، وفي هذا المجال هناك الكثير من الخطوات التي يمكن اعتمادها لريّ المحاصيل مثلاً بشكل لا يؤدّي إلى هدر في المياه. أو حتى العمل على تحديد طبيعة المزروعات المناسبة للأرض المناسبة وتنويع محاصيل التربة نفسها بحسب الفصول.

- تقوية التعاون الدولي: التعاون في مجالات البحوث الزراعية وتبادل الخبرات وترشيدها بما يرفع من جودة الإنتاج وكمياته ويسهم في الحفاظ على تنوعه مستقبلاً.

ختاماً، إنّ التحدّيات المستقبلية التي تواجه منظومة الأمن الغذائي في العالم تتطلّب جهودًا متجدّدة واستراتيجيات شاملة وسياسات علمية وتخطيط انمائي، كما يجب أن يكون هناك نهج متعدّد الجوانب يجمع بين التكنولوجيا والتخطيط الانمائي والتعاون الدولي من أجل ضمان مستقبل غذائي آمن ومستدام للجميع، ومن دون تمييز بين مجتمعات متقدمة غنية وأخرى بدائية فقيرة، فالغذاء يجب أن يكون فعلاً بمتناول الجميع.