غطّت التطوّرات النقدية الأخيرة "جمر" الكهرباء، بـ "رماد" انشغال الرّأي العام بحاكمية مصرف لبنان، ومنصّة صيرفة، ومستقبل الليرة، والتدقيق الجنائي. فالفواتير الناريّة "تكوي" على السكت جيوب المشتركين من مواطنين ومؤسسات إنتاجية، وتهدّد باندلاع النيران في هشيم خطّة الطوارئ الطاقوية. وهي الخطّة التي يمكن اختصارها بزيادة التّعرفة للتمكّن من استيراد الحدّ الأدنى من وقود للمعامل الحرارية... مع الوعد بنزع التعديات وتخفيض الهدرين التقني وغير التقني.

مع بدء جباية بعض شركات مقدّمي الخدمات (SP)، الفواتير التي تعود لكانون الثاني وشباط الماضيين، تبيّن أنّ التعرفة عن شهرين تفوق أساس الراتب لأغلبية الموظفين. ذلك مع العلم أنّ التغذية في بداية العام كانت بحدودها الدنيا. ولم تتجاوز في أغلبية المناطق الساعتين في اليوم. أمّا بالنّسبة للمصانع وبرّادات التخزين، ومؤسسات الإنتاج الكبيرة.. فحدّث ولا حرج عن فواتير بمئات الملايين من الليرات.

اللاعدالة في التعرفة

المشكلة في تعرفة الكهرباء المؤلّفة من كلفة ثابتة (بدل تأهيل، ورسم عداد)، ومتحركة ( 10 سنت على الاستهلاك الذي لا يزيد عن 100 كيلوواط شهرياً، و27 سنت لما فوق هذا الحد) لا تقتصر على ارتفاعها، إنّما على عدم عدالتها. وقد تمظهر عدم العدالة في أمرين فاقعين:

الأوّل، ارتفاع الدولار الكهربائي (دولار منصة صيرفة + 20 في المئة) عن دولار المولّدات الخاصّة. فابتداء من تشرين الثاني 2022 بدأت مؤسسة كهرباء لبنان الفوترة بالدولار على أن يسدّدها المشترك بالليرة على أساس السعر الخاص، والذي كان وقتها 52330 ليرة. "إلّا أنّ قيمة الدولار الكهربائي ارتفعت في فواتير كانون الثاني وشباط 2023 إلى 103440 ليرة"، يقول الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين. "وهو ما رفع قيمة فواتير "كهرباء الدولة" إلى حدّ أصبحت معه فاتورة المولّدات الخاصّة أدنى بنسبة 19 في المئة. الأمر الذي يدفع المواطنين إلى الاعتماد أكثر على المولّدات الخاصّة، كبديل عن كهرباء الدولة التي لا تتأمن أكثر من 4 ساعات. وهو ما سيؤثر حكماً على الجباية وقدرة الكهرباء على الاستمرار".

الثاني، أنّ كلفة الكيلوواط الواحد المنتج من مولدات المعامل والمصانع الخاصة تقلّ بنسبة 50 في المئة عن كلفة الكيلوواط المباع من مؤسسة كهرباء لبنان. ذلك مع العلم أنّ مولدات المعامل ليست مخصصة لتوليد الكهرباء على مدار الساعة، إنما للاحتياط. وقد تنخفض الكلفة في المولدات الفعالة بنسبة 75 في المئة.

الكلفة الفعلية للكيلوواط / ساعة

حُدّدت التعرفة للجديدة للكهرباء للاستهلاك الذي يفوق 100 كيلوواط، على أساس أنّ سعر برميل النفط 95 دولاراً، ونسبة الهدرين التقني (ضعف الشبكة، الفوترة..) وغير التقني (السرقة) تبلغ 40 في المئة. أمّا بالنّسبة إلى الكلفة الثابتة في الفاتورة فقد وضعت بشكل يعوّض الخسارة من بيع الكيلوواط بـ 10 سنت بالنسبة لحجم الاستهلاك الذي يقلّ عن 100 كيلوواط. وإذا ما أضفنا "التحوط" بسعر الصرف، من خلال إضافة 20 في المئة على سعر منصّة صيرفة، "تصبح الكلفة الحقيقية للكيلوواط – ساعة التي يدفعها المستهلك تتراوح بين 40 و50 سنتاً وليس 27 سنتاً كما تدّعي الخطّة من الناحية النظرية"، يقول رئيس تجمّع الصناعيين في كسروان بول أبي نصر. "في حين أنّ الكلفة الحقيقية لإنتاج الكهرباء في معامل مؤسسة كهرباء لبنان، يجب ألا تتجاوز 17.5 سنت للكيلوواط – ساعة. وذلك في حال احتساب سعر برميل النفط بقيمته الحقيقية، وتخفيض الهدر إلى حدود 17 في المئة، وإلغاء التحوط في احتساب سعر الصرف. وتظهر الكلفة الحقيقية بشكل واضح في دراسة البنك الدولي مع وزارة الطاقة في العام 2021".

البحث الجدّي بالتعرفة

أمام هذا الواقع الذي بدأ يهدّد جدّيّاً بنزع الصناعيين العدادات، والاعتماد بشكل كامل على مولداتهم الخاصة، تداعت لجنة الاقتصاد والتجارة لإيجاد حلّ للموضوع. وقد بحثت على مدار أكثر من اجتماع مع المعنيين من الصناعيين ووزارة الطاقة ومؤسسة كهرباء لبنان بواقع القطاع. "وقد برهنّا على فاتورة مصدّرة حديثاً على أنّ إضافة التكاليف الثابتة على التعرفة يرفع الكيلوواط – إلى ما بين 40 وأكثر من 50 سنتا. وهذا يعتمد على مقدار توفر التغذية الكهربائية. خصوصاً أنّ المصاريف الثابتة محتسبة على أساس كهرباء 24/24 في حين أنّ التغذية لا تزيد عن 4 ساعات بالحدّ الأقصى"، يضيف أبي نصر.

تصحيح التعرفة غير كافٍ

مدير عام مؤسسة كهرباء لبنان كمال الحايك أكّد خلال الاجتماعات التي عقدتها لجنة الاقتصاد والتجارة على الغبن اللاحق بالمشتركين عموماً، والصناعيين خصوصا من جرّاء التعرفة. معلناً العمل بجدّيّة على خطّة تصحيحية. وذلك من خلال تخفيض المصاريف الثابتة التي تشكل 42 في المئة من الفاتورة، مقابل رفع سعر الكيلوواط من 27 إلى 29 سنتاً، من أجل المحافظة على الاستقرار المالي للمؤسسة. "وعلى الرغم من تأكيدنا على أهمية تخفيض النفقات الثابتة من جهة، وحرصنا على ضمان الاستقرار المالي للشركة من الجهة الثانية، إلّا أنّ احتساب التعرفة على أساس 29 سنتا يبقى أمراً غير منطقي"، من وجهة نظر أبي نصر. فـ "كلفة الكيلوواط ساعة من مولدات الديزل في الشركات والمؤسسات الصناعية تتراوح بين 26 و28 سنتا، أي أقلّ من كلفة انتاج كهرباء الدولة. وعليه لا يمكن أن نطلب من أيّ شركة أن تدفع للدولة أكثر مما يكلّفها انتاج الكهرباء من مولّداتها.

الإصلاح أهمّ

على الرّغن من أهمّية إعادة النظر في تعرفة الكهرباء، إلّا أنّ الهدف هو تخفيض التعرفة إلى حدودها الدنيا. وهذا لا يتحقّق إلّا من خلال تخفيض الهدر، ولاسيما المتعلق بـ "التعليق" على الخطوط، أي السرقة، وتفعيل الفواتير والجباية وزيادة الانتاج. "والقطاع الخاص مستعد لمواكبة الدولة"، برأي أبي نصر. "شرط تقديمها مقاربة منطقية. كأن تطبّق مثلا زيادة التغذية على المخارج التي يتخفض فيها الهدر وتتم فيها الجباية بشكل كامل".

في إحدى الدراسات التي عمل عليها البنك الدولي تبيّن أنّ الدولة اللبنانية قادرة في معاملها القديمة التي تعمل على "الفيول أويل" انتاج الكهرباء بكلفة 13 سنت للكيلوواط، وبيعه بـ 14.5 سنتاً. في حين أنّ الكلفة تصل اليوم إلى 50 سنتاً. ومن المستحيل على الأفراد والمؤسسات الاستمرار في تسديد الكلفة الباهظة في ظلّ هذه الظروف.