واشنطن تدرك جيداً أنّ أبواب الفرص ستقفل أمام أوكرانيا في حال لم تحقّق أيّ مكسب عسكري قبل نهاية العام الحالي
جاء إعلان الرئيس الأميركي جو بايدن الأسبوع الماضي عن إقدام واشنطن على تزويد أوكرانيا بقنابل عنقودية ليطرح الكثير من التساؤلات، خاصّة وأنّ تصريحات من هذا القبيل لا تصدر عادة عن رؤساء الدول. فهؤلاء، ورغم موافقتهم في معظم الأحيان على نقل الأسلحة من أيّ نوع كانت، غير أنّهم يتركون مهمة الكشف عمّا أمكن عن طبيعة الأسلحة وأسباب تسليمها، لعسكريين في موقع المسؤولية أو لمسؤولين في وزارة الدفاع. فهل نحن أمام تهديد رئاسي أميركي مباشر لروسيا؟
لا للقنابل العنقودية؟
قبل الغوص في خلفيات التصريح وتداعياته، لا بدّ من جولة للتعريف بالقنابل العنقودية. فما هي أبرز خصائصها ومدى خطورتها؟ إنّها عبارة عن قنابل صغيرة تُعرف بإسم "العبوات الفرعية" وتوجد ضمن مستوعب أو قذيفة تُفتح في الجوّ وتنشر على مساحات واسعة، فتقوم بتدمير المركبات الخفيفة وقتل الأفراد أو إصابتهم ما يجعلهم خارج المعركة. وقد تتسبب هذه القنابل أيضاً بإصابة المدنيين بأضرار جسدية بالغة تصل إلى حدّ القتل. ليس هذا وحسب، فالأسوأ من ذلك أنّ القنابل العنقودية هي تركة كارثية قاتلة يمتدّ تأثيرها لعقود كثيرة من الزمن لِتَرِثَها أجيال ما بعد الحرب. هذا مع الإشارة إلى التدمير الاقتصادي الذي تحدثه هذه القنابل في المنطقة التي تستهدفها بحيث تحرم مجموعات سكانية بأكملها من استخدامها زراعياً أو الاستفادة ممّا تختزنه من الموارد الطبيعية. لكلّ هذه الأسباب، قامت حوالى 120 دولة بالتّوقيع على اتفاقية حظر استخدام وإنتاج ونقل وتخزين القنابل العنقودية وجميع الأنشطة المرتبطة بها.
قنابل صغيرة تُعرف بإسم "العبوات الفرعية" وتوجد ضمن مستوعب أو قذيفة تُفتح في الجوّ وتنشر على مساحات واسعة
بوتين يتراجع... لا مهزوماً!
بالعودة إلى تصريح بايدن الذي اعتُبر جزءاً من مناورة إمّا لإنهاء الحرب أو لإعادة شنّها من قِبَل بوتين، فهو يهدف، دون أدنى ريب، للوصول إلى طاولة مفاوضات تطفئ فتيل الحرب، في ظلّ غياب أيّ أدلّة تشير إلى تواصل أميركي - روسي بشأن أوكرانيا. ويذهب البعض أبعد من ذلك باعتبار أنّ ما يحصل هو محاولة للتخلّص من مخزون قديم من القنابل العنقودية لدى الجيش الأميركي، خاصّة وأنّ تكلفة إتلاف الأخيرة باهظة جداً. علماً أنّه، حتى لو تمّ تزويد أوكرانيا بالقنابل العنقودية، فذلك لن يساعدها في تغيير ميزان القوى نظراً لضعف برامج تدريب قوّاتها ونقص الخبرة لديها.
في الواقع، لا شك أنّ روسيا بحاجة ماسّة إلى إنهاء الحرب لكن مع الحفاظ على صورة "اللامهزوم"، فهذا هو حال المتقاتلين في معظم الحروب. هذا وقد ولّدت محاولة الانقلاب التي قامت بها مجموعة فاغنر الرّوسيّة بعض الشكوك الضئيلة لدى بوتين حول مدى التزام كبار العسكريين الروس بالقيادة الروسية، وطرحت التّساؤلات حول ما يمكن أن يحصل في موسكو.
لكلّ ما تقدّم، ونتيجة الضغوط المستمرّة التي يتعرّض لها، نرى بوتين يتمسّك أكثر فأكثر بمسألة إنهاء الحرب، التي أضحت ضرورية وملحّة خاصة بعد أن فاقت الخسائر في الأرواح والمعدات المتوقّع. هذا ويسعى بوتين لإظهار أنّ الذين استشهدوا وأصيبوا إنّما قاموا بذلك دفاعاً عن عظمة روسيا الاتحادية، التي خاضت الحرب للسيطرة على أوكرانيا ولتعميق العمق الاستراتيجي لها، كما لإبعاد قوات الناتو عن حدودها.
تكتيك جديد خلف المناورات
من جهتهم، قام الأميركيون ومعهم الأوروبيون بدعم أوكرانيا منعاً لسقوطها وإظهاراً لرغبتهم في الحفاظ على وحدة أراضيها، فأضحى واضحاً أنّ روسيا لن تتمكّن من احتلال كافة الأراضي الأوكرانية وأنّها مضطرة للتخلّي عن جزء منها. رغم ذلك، وحتّى لو قبلت كلّ من واشنطن وكييف بالتقسيم، فليس هناك أيّ خطّ منطقي يفصل شرق أوكرانيا عن غربها يمكن الدفاع عنه، سوى منطقة "دونباس"، المنطقة الأكثر احتمالًا على طول الحدود الشرقية مع روسيا، لتكون الخط الفاصل، وهي المأهولة بغالبيتها من قبل الروس، والتي كان لروسيا وجود فيها قبل الحرب.
لقد حشر الرّئيس الروسيّ نفسه في زاوية صعبة، ذلك لأنّ مصلحة موسكو التي تقتضي إنهاء الحرب من حيث بدأت، ستمنح أوكرانيا تنازلاً يفقد روسيا وجودها الاستراتيجي العميق. فهل يكون تغيير ديناميكية المفاوضات وإعلان انتصار عسكري حاسم ينهي الحرب بشروط روسيا ويبرّر ما قامت به هو الحلّ؟ ليس مستبعداً خاصّة أنّه، وبالرغم من كلّ هذه المناورات، هناك الكثير من الأدلّة تشير إلى أنّ روسيا تستعدّ لهجوم واسع النّطاق لصدّ الهجوم الأوكراني المضاد إذا حصل والتوغّل في عمق أوكرانيا.
لكن ماذا لو لم يكن هذا الهجوم حاسماً على غرار الهجمات السابقة التي لم تحقّق نجاحًا على الإطلاق؟ سؤال آخر يطرح نفسه. يبدو أنّ عوامل كثيرة ستشكّل قيمة مضافة لروسيا هذه المرّة، منها استخدام القوّات النظامية وقوات النخبة؛ مزج مجموعة خبرات لنظم الأسلحة المعتمدة والمرتبطة بأمر العمليات الخاص بالهجوم؛ وإنهاك القوّات الأوكرانية بعد أن قاتلت لفترة طويلة.
واشنطن تسابق الوقت
تجاه كل ما يحصل، أين تقف واشنطن؟ إنّها تحتاج، أكثر من أي وقت مضى، إلى تسوية تعيد ثقة الناخبين الأميركيين الذين يعارضون هذه الحرب وهم غير مقتنعين بضرورة دعم الولايات المتحدة لها. هذا وقد يزداد الوضع سوءاً في حال أدّى الهجوم الروسي إلى تحطيم الدفاعات الأوكرانية المزوّدة بأحدث الأسلحة الأميركية والغربية.
واشنطن تدرك جيداً أنّ أبواب الفرص ستقفل أمام أوكرانيا في حال لم تحقّق أيّ مكسب عسكري قبل نهاية العام الحالي. فرهان موسكو على "الجنرال ثلج" مع بداية فصل الشتاء، والإنهاك الاقتصادي الغربي الذي أصاب بالأخصّ دول القارّة العجوز التي دعمت أوكرانيا بالعتاد العسكري المتطوّر والمكلف، إضافة إلى انتخابات الولايات المتحدة المرتقبة في تشرين الثاني من العام 2024 وتلك المرتقبة في روسيا وأوكرانيا في آذار القادم، جميعها عوامل ستسمح لبوتين التحكّم بالمفاوضات ليديرها كما يشاء.
بمواجهة جميع هذه المخاوف، وبدون أيّ مقدّمات، جاء تصريح الرئيس الأميركي عن تزويد أوكرانيا بالقنابل العنقودية ظنّاً منه أنّه، وتحت ضغط تصريحه هذا، سيقوم الرئيس الرّوسيّ بإعطاء أمر الهجوم مكبّداً روسيا خسائر فادحة ستؤدّي إلى تفكّك القوّة المهاجمة وفقدان الجيش الروسي السيطرة. هكذا، وبحسب بايدن أيضاً، سيضيّع بوتين فرصته الأخيرة في مفاوضات السلام كما في فرض تنازلاته من موقع الرابح. أمّا في حال المناورة، فسيجبر الروس على دخول المفاوضات وفي جعبتهم القليل من المطالب.
يبدو أنّ بوتين فهم الرسالة وإنّ الغد لناظره قريب...