عكست موجة الاضطرابات الأخيرة في فرنسا إلى حدّ كبير التوتّرات الاجتماعية الحادّة في البلاد.

كشفت احتجاجات فرنسا الأخيرة النّقاب عن شرخ ملحوظ بين المواطنين الفرنسيين الأصليين من جهة، وبين جالية المهاجرين من شمال أفريقيا من جهة أخرى. وقد جاء ذلك إثر اندلاع أعمال شغب عنيفة داخل البلاد الأسبوع الماضي، على خلفية قتل الشاب نائل مرزوق، وهو فرنسي الجنسية من أصول جزائرية، على يد الشرطة الفرنسية. يذكر أنّ مرزوق لقي مصرعه في السابع والعشرين من حزيران الماضي، في ساحة نيلسون مانديلا الواقعة في مدينة نانتير، إحدى ضواحي باريس. وعلى الفور، سارعت الأمم المتّحدة بالطّلب من فرنسا معالجة "المشاكل العنصرية والتمييز" المتجذّرة في صفوف قوّاتها الأمنية.

هذا المشهد ليس غريباً على فرنسا. ففي السادس من تشرين الأول 2005 اندلعت أعمال شغب مماثلة وصلت إلى قلب العاصمة باريس، كما امتدّت إلى العديد من المدن الفرنسية، وجاءت هذه الاضطرابات كردّ مباشر على مقتل شابين من شمال أفريقيا كانا قد تعرّضا لصعقة كهربائية داخل إحدى محطّات الكهرباء الفرعية أثناء اختبائهما من الشرطة الفرنسية.

حينها، وصف وزير الداخلية الفرنسي، نيكولا ساركوزي، المتظاهرين بالـ"حثالة"، ما ضاعف غضبهم، فاضطرّت السلطات الفرنسية لإعلان حالة الطوارئ لمدّة حوالي الثلاثة أشهر. صحيح أنّ أعمال الشغب وقتها لم تدم أكثر من بضعة أيّام وانتهت باعتقال آلاف المتظاهرين، غير أنّ حصيلة الخسائر جاءت مذهلة: تخريب عشرات المتاجر والمطاعم والمباني العامّة؛ مهاجمة أكثر من 150 مركزاً للشرطة؛ حرق آلاف المركبات؛ وإصابة المئات من ضباط وعناصر حفظ الأمن.

على أي حال، لم يعد سرّاً أنّ تكرار الاحتجاجات العنيفة التي يقودها أشخاص من أصول أفريقية، وإن دلّ على شيء، إنّما يدلّ على الهوّة العميقة بين سكّان فرنسا الأصليين وأولئك المهاجرين إليها من شمال أفريقيا تحديداً. فما العوامل التي ساهمت في ذلك؟

تمييز عنصري

شهدت فرنسا موجات متعدّدة من الهجرة الجًماعية منذ العام 1945 لسدّ فجوات العمالة وخاصة الحرفية منها. ففي العام 1962، وبعد استقلال الجزائر، تزايدت نسبة المهاجرين إلى فرنسا بشكل ملحوظ، بهدف التّعويض عن النقص الحاصل في أعداد العاملين في المناجم، كما في الصناعات العالية الخطورة التي لم تَرُق للمواطنين الفرنسيين، كالسيارات والكيميائيات وغيرها.

كذلك، وبدءاً من العام 1974، ساهمت قوانين "لَمّ شمل الأسرة" في ازدياد أعداد المهاجرين إلى فرنسا بشكل غير مسبوق، ما سرّع ولادة أزمة إسكان هائلة. تزامناً، ارتفعت معدّلات البطالة بعد إغلاق المناجم وبعض معامل الصّناعات الثقيلة وتسريح العمّال. هذا إضافة إلى إقرار الحكومة الفرنسية زيادة الضّرائب على أصحاب الدخل المرتفع، الذين اضطرّ العديد منهم إلى الانتقال إلى أماكن أخرى، ما انعكس تحوّلاً ديموغرافياً في الضواحي الفرنسية.

جميع هذه الظروف كان من شأنها تغذية ثقافة التمييز العنصري تجاه الجاليات الفرنسية المهاجرة، لا سيّما تلك القادمة من شمال أفريقيا. ولم تسلم عناصر الشرطة وقوّات الأمن من هذا التمييز داخل صفوفها باعتراف وزير الداخلية الفرنسي آنذاك، كريستوف كاستانير، الذي دعا إلى التصدّي لحالات العنصرية داخل الشرطة وقوات الأمن الفرنسية.

ظلم اجتماعي ولامساواة

من ناحيتها، عكست موجة الاضطرابات الأخيرة في فرنسا إلى حدّ كبير التوتّرات الاجتماعية الحادّة في البلاد. فقد امتدّت الاشتباكات مع قوّات الأمن، إلى نحو مائة مدينة في كافّة أنحاء فرنسا - رغم تعبئة الحكومة 45 ألف عنصر أمني لمواجهتها - ما عكس المشاكل الاجتماعية والاقتصادية العميقة الجذور لا سيّما في الضواحي، كما الإرث الطويل للإهمال الحكومي في هذه المناطق.

وما يميّز هذه الاشتباكات عن سابقاتها أنّ العديد من المتّهمين بالعنف والتخريب هم، بحسب السلطات، من الشباب المهاجر. وكان نحو ثلث الذين اعتقلتهم قوّات الأمن تحت سن الثامنة عشرة. برّر العديد من المتظاهرين تصرّفاتهم بأنّها ردّة فعل على الظلم الاجتماعي الحاصل، معبّرين عن غضبهم من السلطات الفرنسية من خلال تدمير الممتلكات العامّة وحرق السيارات ونهب المحلات والاشتباك مع الشرطة. في حين أنّ آخرين أبدوا امتعاضهم من تجاهل ظروفهم المعيشية ومطالبتهم بالعدالة والمساواة، ظنّاً منهم أنّ أعمال الشغب التي يقومون بها قد تجبر الحكومة على إدراك أخطائها ومحاولة إصلاحها.

في غضون ذلك، أدّت التغطية الإعلامية الواسعة وتصريحات ساسة الجناح اليميني المتطرّف المناهض للهجرة إلى تفاقم التوتّر، ما دفع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وحكومته إلى الإسراع في نزع فتيل التوتّرات بعكس ما قام به ساركوزي في العام 2005. فما كان من ماكرون إلّا أن وصف قتل مرزوق بالعمل الذي لا يغتفر، في حين قامت الشرطة الفرنسية بتوقيف الشرطي مطلق النار، حتى قبل صدور قرار اعتقاله، وتوجيه الاتهام إليه بالقتل المتعمّد مع سبق الإصرار. وبالرغم من أنّ مقطع فيديو حادثة إطلاق النار يتناقض مع تصريح الشرطي الذي زعم الدفاع عن نفسه كون حياته كانت مهدّدة بالخطر، غير أنّ الأحزاب اليمينية والشرطة الفرنسية أصرّت على اتهام ماكرون بخيانته لها وعدم الوقوف إلى جانبها.

إختلاف إيديولوجي

شهد ماكرون منذ تولّيه منصبه في العام 2017 عدّة احتجاجات نتيجة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية في البلاد. ففي أيار من العام 2018، أي بعد عام من انتخابه رئيساً، بدأت احتجاجات حركة السترات الصفراء التي دعت إلى تخفيضات ضريبية وزيادة في الأجور. وخلال كانون الثاني المنصرم اندلعت مظاهرات حاشدة نظّمها معارضو مشروع إصلاح المعاشات التقاعدية الذي اقترحته حكومة ماكرون، والذي من شأنه رفع سن التقاعد من 62 إلى 64 عاماً.

وبالتالي، فإن أحد أبرز التحديات الرئيسية التي يواجهها مهاجرو شمال أفريقيا، خاصة الفقراء وغير المتعلمين منهم، هو عدم التماهي مع إيديولوجية الجمهورية الفرنسية المتمحورة حول الحرّيّة والمساواة والعلمانية، والتي أصبحت جزءًا لا يتجزّأ من عقيدة فرنسا. وبسبب إحجام هؤلاء المهاجرين عن تبنّي العقيدة الفرنسية والاندماج في المجتمع الفرنسي، أصبح مجتمعهم عرضة للتمييز العنصري وتفاقم نسبة البطالة.

العين على "فرنسا 2030"

رغم سعي الحكومة الفرنسية منذ العام 2005 إلى توسيع نطاق السياسات المناهضة للتمييز العنصري عقب أعمال الشغب التي عصفت بالبلد، ورغم تحقيق ماكرون العديد من الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية (وأهمّها خفض معدّل البطالة)، منذ وصوله إلى سدّة الرئاسة في العام 2017، غير أنّ مظاهر الفقر والجريمة والتمييز العنصري وسوء الأداء التعليمي بقيت متفشّية في مجتمعات المهاجرين الفقيرة.

ليس هذا وحسب. ففي نهاية الأسبوع المنصرم، وعلى خلفية الاحتجاجات الأخيرة، أصدرت نقابتان بارزتان للشرطة في فرنسا بيانًا بلهجة نارية مليئة بالكراهية والعنصرية ضد الفرنسيين المنحدرين من أصل أفريقي، جاء فيه: "نحن في حالة حرب مع جحافل الحشرات". هذا وقد دعا زعيم اليمين المتطرف، إريك زمور، السلطات إلى قمع المتظاهرين الذين يعتبرهم والعديد من السياسيين الفرنسيين سببًا في مشاكل البلاد.

باختصار، واستناداً لما تقدّم، يبدو أنّ مسلسل موجات الاحتجاجات في فرنسا لن ينتهي فصولاً في ظلّ غياب أيّ معالجة جذرية لكافّة الأسباب ذات الصلة. فهل تنجح خطة "فرنسا 2030" التي أعلن عنها ماكرون في تطوير أحياء المهاجرين الفقيرة بعد أن فشلت في إحداث أيّ تغيير ملحوظ حتّى الساعة؟ الجواب رهن الأيام المقبلة.

مسلسل موجات الاحتجاجات في فرنسا لن ينتهي فصولاً في ظلّ غياب أيّ معالجة جذرية لكافّة الأسباب ذات الصلة