قبل أيام قليلة من انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، المهندس الأوّل لمنصّة صيرفة ومحرّكها بالتّعميم الأساسي 161، بدأت تثار الأسئلة حول مستقبل المنصّة،

لم تكن منصّة صيرفة "الفتاة البكر" للسياسة النقدية، إنّما الولد اللقيط للعلاقة غير الشرعية التي جمعت مختلف السلطات الرئاسية التشريعية التنفيذية والقضائية. كلٌ بدوره طالباً، مسهلاً، منفّذاً.. أو حتّى ساكتاً، وافق على اعتماد السياسات "الترقيعية" والاستمرار بالحلول المجتزأة من دون الالتفات إلى الكلفة الباهظة التي يدفعها المجتمع في حال استمرارها طويلاً، والصدمة التي قد تنتج عن توقّفها من دن إيجاد البدائل الإصلاحية.

قبل أيام قليلة من انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، المهندس الأوّل لمنصّة صيرفة ومحرّكها بالتّعميم الأساسي 161، بدأت تثار الأسئلة حول مستقبل المنصّة، وتوازياً مصير سعر الصّرف المرتبط بها بشكل عضوي. أغلب التوقّعات تشير إلى استمرار "العمل كالمعتاد" - Business as usual، في المرحلة القادمة. ليس في الأمر تقليلاً من الدّور المحوري للحاكم، بقدر الإشارة إلى ثقل القبول السياسي الضمني بالإجراءات النقدية التي اتّبعت، والتوافق على استمرارها.

العوامل التي حكمت استمرار المنصّة

قبل الوصول إلى النتائج والتداعيات لإيقاف العمل بمنصّة صيرفة من عدمه، من المهمّ الإضاءة على ثلاثة أسباب رئيسية حكمت استمرار العمل بها خلال سنوات الأزمة.

- الأول، تشكيلها أداة لتخفيف نقمة موظّفي الدولة على زعمائهم، وإلهائهم بفتات تحويل رواتبهم إلى الدولار على سعر صرف يقلّ عن سعر الصّرف في السوق الموازي.

- الثاني، مساهمتها بزيادة عرض الدولار وسحب فائض الليرات. وبالتّالي تأمين الاستقرار في سعر الصرف في المراحل التي تضخّ كمّيات كبيرة من النقد الصعب يومياً في الاقتصاد. ذلك مع العلم أنّها كانت من المسبّبات الأساسية لوصول سعر الصّرف إلى معدّلات قياسية في المراحل التي كان يتدخّل فيها مصرف لبنان شارياً للعملة الصعبة.

- الثالث والأهمّ، هو تأمينها ربحاً سهلاً وسريعاً للمصارف، عوّض عن تراجع الفوائد والتوقّف عن الإقراض. فنسبة عمولة المصارف من عمليات صيرفة بلغت 5 في المئة. وهو ما يعني تحقيق المصارف أرباحاً تقّدر بنحو مليار دولار إذا افترضنا أنّ حجم التداول على منصة صيرفة بلغ حوالي 22 مليار دولار منذ إطلاق المنصة في شكلها الأخير في أيار 2021.

ركيزتا المنصة

"من حيث التّصميم التّقني تقف منصّة صيرفة على ركيزتين"، يقول الرئيس السابق للجنة الرّقابة على المصارف سمير حمود.

الأولى: قدرة المصرف المركزي على حمل خسائر بالليرة اللبنانية نتيجة بيع الدولار على المنصّة بسعر أقل من شرائه. فهو يشتري الدولار راهناً بـ 91500 ليرة ويبيعه بـ 85500. ويخسر بالتالي 6 آلاف ليرة بكل دولار. (يتعمّق الفرق أكثر في الأوقات التي يرتفع فيها سعر الصّرف بنسبة كبيرة).

الثانية: تحمّل خسائر بنحو 100 مليون دولار شهرياً بالعملة الصعبة نتيجة تدخّله بائعاً للدولار على منصّة صيرفة.

المجلس المركزي غير متّفق على رأي واحد

الحاكم "كان قلبه قوي"، بحسب حمود. وأخذ على عاتقه تحمّل العواقب الناتجة عن منصّة صيرفة. فهل يُكمل بالمسار نفسه من يأتي بعده، سواء كان نائبه الأوّل وسيم منصوري، أم حاكم آخر أصيل؟

الجواب غير محسوم، برأي حمود. "خصوصاً في ظلّ انقسام الآراء حول منصّة صيرفة في المجلس المركزي، وعدم وجود وجهة نظر موحّدة بين نوّاب الحاكم واتخاذ القرارات بالتوافق الجماعي. وذلك خلافاً لما يجري راهناً. حيث يلعب سلامة دور "المايسترو" ويتّخذ القرارات بغطاء سياسي من السلطة التنفيذية ووزارة المالية. حتّى أنّه عندما اتخذ القرار بالعمل على منصّة صيرفة، لم يكن قراراً صادراً عن المجلس المركزي، إنّما عن اتفاق بينه وبين وزير المالية بموافقة رئيس مجلس الوزراء". وبرأي حمود فإنّ "الإدارة الجماعية لمصرف مركزي في دولة تعاني من انهيار كالذي أصاب لبنان يعتبر مخاطرة بحد ذاته".

تهديد استقرار سعر الصّرف

وعليه إن "كان المجلس المركزي يخشى تحمّل خسارة بالليرة، وغير مستعدّ للتدخّل بائعاً للدولار في المرحلة المقبلة، فإنّ منصّة صيرفة ستتحوّل إلى منصّة إعلانية تحدّد حجم البيع والشراء والسعر، وستفقد فعاليتها كمحرك أساسي ومتدخل بسوق القطع"، يتابع حمود. "ومن المستحيل التأمّل باستقرار سعر الصرف أو حتّى تخفيضه إن لم يكن هناك جهة مستعدة لبيع الدولار وحمل الليرة". في المقابل فـ"إنّ بيع المصرف المركزي ما يحمله من ليرات لإعادة شراء الدولار، لا يؤثر" من وجهة نظر حمود على "سعر الصرف وتحسين سعر الليرة اللبنانية". وبرأيه "نسبة العمولة تمّ تخفيضها إلى ما بين 2.5 و3 في المئة، لأنّه مع تراجع الهامش بين سعر السوق الموازي وسعر المنصّة، فإنّ الإبقاء على نسبة 5 في المئة كعمولة تؤدّي إلى تآكل الأرباح، ولا يعود من مصلحة أحد إجراء عمليات على المنصّة".

الخسائر

إشكالية أخرى لا تقلّ أهمّية عن مصير صيرفة، ستواجه المجلس المركزي بعد انتهاء ولاية الحاكم، وتتمثّل بالخسائر التي أضافها على ميزانيته. حيث برز في أيار 2023 بندان في ميزانية المركزي يظهران ديناً على الدولة بقيمة تناهز 51.3 مليار دولار. ويتوزّعان على شكل "دين على القطاع العام"، بقيمة 16.5 مليار دولار، وتعديل إعادة التقييم بقيمة 34.8 مليار دولار. وبحسب حمود "يحقّ للمصرف المركزي وفقاً للمعايير المحاسبية تسجيل الخسائر كموجودات، كما تسجّل الأرباح المخفية بالمطلوبات. وبالتالي يحقّ للمركزي تبيان الخسائر، كخسائر وليس كموجودات. وهذه الخسائر لا تعود إلى شهر أو شهرين إنما إلى فترات طويلة سابقة وقد أراد الحاكم إظهارها قبل مغادرته".

ما يتبين بالأرقام يظهر أنّ الدين العام اللبناني بالعملة الأجنبية أكبر بكثير 37 مليار دولار التي تمثل سندات "اليوروبوندز" وفوائدها. ويصل إجمالي الدين إلى حدود 100 مليار دولار بالحدّ الأدنى. ويمثل 500 في المئة من النّاتج المحلّي الإجمالي، المقدّر بحسب التقارير الدولية بحوالي 21.8 مليار دولار. وهذا "لغم" إضافي في المسار الإصلاحي في القادم من الأيام.