لم يقل صندوق النّقد الدّولي في تقريره الأخير ما يجهله اللبنانيون، وتحديداً فئة المسؤولين منهم. إلّا أنّه حرص على تذكير الجميع بانّ هناك حاجة ماسّة لاتخاذ إجراءات سريعة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، مع احترام التسلسل الهرمي للمطالبات (تراتبية المسؤوليات والخسائر).
يخال للمسؤولين أنّهم نجحوا بإخفاء "وسخ" الخسائر الناتجة عن تغييب الإصلاحات، تحت "سجادة" إلهاء المواطنين بالمشاكل اليومية، فتأتي التقارير الدولية لتفضحهم. فالبلد، وإنّ بدا وكأنّه يتعافى ظاهرياً، فإنّه يتآكل من الدّاخل تدريجياً. ولعلّ توقّع صندوق النّقد الدولي وصول الدين العام إلى 550 في المئة من النّاتج المحلّي الاجمالي بحلول العام 2027، خير دليل على ذلك. والخطير بأنّ ارتفاع هذا المؤشّر لا يعود إلى ازدياد معدّلات الاستدانة، بل إلى تراجع النّاتج المحلّي. مع ما يعنيه ذلك من انكماش، والمزيد من تدهور الأجور وزيادة معدّلات الفقر والبطالة.
لم يقل صندوق النّقد الدّولي في تقريره الأخير ما يجهله اللبنانيون، وتحديداً فئة المسؤولين منهم. إلّا أنّه حرص على تذكير الجميع بانّ هناك حاجة ماسّة لاتخاذ إجراءات سريعة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، مع احترام التسلسل الهرمي للمطالبات (تراتبية المسؤوليات والخسائر). وهو المبدأ الذي اتفق عليه مع الحكومة في الاتفاق المبدئي على صعيد الموظفين في نيسان 2022. وقد شدّد من خلال التقرير على ضرورة حماية صغار المودعين إلى أقصى حدّ ممكن، وتقليل اللجوء إلى التمويل العام. وذلك بالنظر إلى الحاجة لاستعادة الدولة القدرة على تحمّل الديون.. وهنا بيت القصيد.
تراتبية الخسائر.. تحقّقت
المصارف (في العلن)، وفئة كبيرة من السياسيين والنواب (في الخفاء)، ترفض هذا المبدأ رفضاً قاطعاً. وهي تنطلق من أنّ الدولة استعملت ما لا يقلّ عن 20 مليار دولار من سلفات الخزينة مع فوائدها من أجل تمويل الكهرباء، واستخدمت جزءاً آخر لا يقلّ أهمية من أجل تثبيت سعر الصّرف وتمويل فاتورة الاستيراد... وغيرها الكثير من المتطلّبات. وكلّها نفقات استعمَلت أموال المودعين لتمويل نفقات كل المواطنين... وبالتالي يقتضي المنطق تحمّل الدّولة مسؤولياتها، وليس نقلها على كاهل المودعين والمصارف التجارية. وبحسب رئيس مجلس إدارة I&C Bank والخبير المصرفي جان رياشي فإنّ "شرط تراتبية الخسائر تحقّق، والكلّ قبل به. ويقضي هذا المبدأ باختصار بأنّ المودع، بصفته دائناً، لا يخسر دولاراً واحداً قبل أن يخسر المساهم في المصرف كلّ أمواله. وهذا الأمر تمّ التسليم به من قبل المصارف بعد نحو3 سنوات ونصف السنة على نشوب الأزمة".
مسؤولية الخسائر والتعويض عنها
أمّا بالنسبة إلى مسؤوليّة الخسائر وتوزيعها، فيلفت رياشي إلى أنّ "هناك لغط بين توزيع الخسائر، والتعويض عنها. ففي الحالة الأولى تتوزّع الخسائر عملياً، على من يحمل الدين، أي المودعين في المصارف، وحاملي سندات اليوروبوندز، والمساهمين الذين سبق واتفقنا أنّهم سيخسرون كل شيء". أمّا التعويض عن الخسائر فهو في المبدأ مسؤولية الدولة. "حيث لا يختلف اثنان على أنّ الدولة اللبنانية مسؤولة أوّلاً وأخيراً عن كلّ الخسائر"، برأي رياشي. فهي ملزمة أوّلاً بحسب قانون النّقد والتسليف تغطية كل خسائر المصرف المركزي (حامل الدين). ومضطرة ثانياً لتحمّل نتيجة عدم إشرافها على جهاز تابع لها بشكل مباشر، والاخفاق في إدارته".
صندوق النّقد يرفض التعويض من المال العام
هذا من الناحية المبدئية، أمّا عمليّاً، فإنّ هاجس صندوق النّقد الدولي، وكل الرافضين لفكرة تمويل الفجوة النقدية المقدّرة بأكثر من 72 مليار دولار من المال العام، يتمثّل بإمكانيات الدّولة، وقدرتها على ردّ ديون حاملي سندات اليوروبوندز (يبلغ أصل الدّين حوالي 32 مليار دولار ويتوزّع على الشّكل التالي: 5 مليار دولار مصرف لبنان. 2.8 مليار دولار المصارف التجارية. 24.2 مليار دولار جهات خارجية) بعد إعادة هيكلة الديون. ولنفترض أنّه تمّ الاتفاق مع الدّائنين على حسم 80 سنتاً بالدولار، أو ما يعادل شطب 25،6 مليار دولار من الديون، فهم سيطالبون بتبريرٍ جدّي يضمن إرجاع نسبة العشرين في المئة المتبقية، والتي تشكل 6.4 مليار دولار" يقول رياشي. "والأمر نفسه ينسحب على المودعين. فليس من المهمّ إطلاق الوعود بإرجاع ودائعهم، بل ضمان إعادتها بقيمتها الحقيقية وفي فترة زمنية قصيرة قبل أن تتآكل قيمتها نتيجة التضخم وعوامل الزمن". وعليه من المهمّ التأكّد من أنّ الأرباح التي ستخصّص للتعويض عن الخسائر سواء تأتّت من صندوق سياديّ أو إدارة ثروة أو تخصيص مرافق عامّة أو خلافه، هي من ضمن إمكانيات الدّولة. من دون أن ننسى أنّ للدولة التزامات أخرى في المستقبل توازي بأهميتها إعادة الديون لحملة اليوروبوندز والمودعين، وتتضمّن الانفاق على الاستثمار وتأمين الحماية الاجتماعية، وضمان تخفيض نسب الفقر والبطالة وتأمين الخدمات الصحّية والتعليمية... وخلافه من المتطلّبات التي يعدّ الاقتصاد بأمسّ الحاجة إليها. ولا يمكن بالتّالي حرمان الدّولة من كلّ إراداتها من أجل التّعويض على الدائنين.
التعويض جزئي
صندوق النّقد الدّولي ورغم رفضه القاطع تخصيص موارد عامّة لإطفاء خسائر خاصة، كان قد قَبِل عقب توقيع الاتفاق المبدئي مع الحكومة بتخصيص 2.5 مليار دولار من أجل إعادة رسملة المصرف المركزي. إلّا أنّ هذا الرقم لا يشكّل "الربع من قبع" الخسائر التي تبلغ 72 مليار دولار على أقلّ تعديل، وهي بازدياد مضطرد نتيجة الاستمرار باستخدام ما تبقّى من توظيفات إلزامية تعود للمودعين. وكلّ زيادة في المبالغ التي ستخصّص لتسديد الديون من المال العام تتطلّب تبريراً منطقياً وتعهّداً جدّياً بعدم تأثيرها على أمرين:
- خدمة الدين العام الجديد من صندوق النقد الدولي والمتوقّع أن يكون بحدود 3 مليار دولار مقسّماً على 20 عام.
- عدم التأثير على قدرة الدولة بالقيام بالخدمات العامّة.
السريالي في الموضوع أنّ الدّولة تتهرّب منذ أكثر من ثلاث سنوات من القيام بدورها الاجتماعي، وتزيد بسياساتها تدهور القطاع العام. وذلك على الرّغم من التوقّف عن خدمتها للدّين. وهي تتبع معادلة يخسر من جرائها المواطنون والمودعون على حدّ سواء ولا يستفيد إلّا قلة من المسؤولين. ولعلّ هذا هو المطلوب في نهاية المطاف؛ استمرار الأمور على ما هي عليه وتحميل كلفة الخسارة الباهظة للمجتمع ككلّ.