هي التركيبة التي حكمت البلاد وأرست نهجاً خاصاً بها، وجدت نفسها بمواجهة شركاء استجدوا على اللعبة السياسية، جاؤوا ليثبّتوا معادلة جديدة في الحكم، وهو ما لم يكن في الحسبان.
لم يكن سهلاً على "تركيبة الطائف" التي قامت على أنقاض صيغة الـ 43، أن يتقبّلوا عودة العماد ميشال عون من منفاه والعفو عن قائد القوات اللبنانية سمير جعجع. التركيبة التي حكمت البلاد بظلّ الوصاية السّورية وبموجب وثيقة الوفاق الوطني التي وضعت برعاية الرياض ودمشق، حاولت جاهدة هضم عودة المسيحيين إلى السلطة كشركاء يحظون بتمثيل شعبي حقيقي. سبق أن اعتادوا على اختيار الوصي لتركيبة الحكم اللبنانية، ينتخبون من يختاره، ويمدّدون لمن يريد، ويمنحون الثّقة وفق ما يُطلب إليهم. وحين انفرط عقد الوصاية قرّروا أن يأخذوا دورها. فليس من السهل أن يرتضوا بالتخلّي عن هذا الدور طواعية.
قد يكون من المفيد التذكير بأنّ محاولة عزل التيار العوني قبل أن يتحول إلى تيار وطني حر، انتهت بما يُعرف بالتسونامي، لم تنفع محاولة استمالة جعجع في مواجهة إحكام عون قبضته على الأكثرية المسيحية في المجلس النيابي. وهو ما دفع البطريرك الماروني نصرالله صفير آنذاك ورغم غياب المودّة بينهما، إلى القول: "أصبح لكل طائفة زعيم". في إقرار بأنّ الفترة التي سبقت عودة عون والعفو عن جعجع لم يكن فيها للمسيحيين من زعيم. ومع انضمام جعجع إلى ما عرف حينها بالتحالف الرباعي بقيت الساحة المسيحية لعون.
إذاً ومنذ العام 1992 تاريخ انتخاب أول مجلس نيابي بعد الحرب الأهلية وحتى العام 2005، لم ينجح كلّ من وصلوا إلى موقع النيابة أو الوزارة أو الرّئاسة في أن يصبح أحدهم زعيماً للمسيحيين الذين عاشوا إحباطاً وانكفاءً وشعوراً بالغبن والقهر، حتى وقعت جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وما أعقبها من تطورات انتهت بانسحاب الجيش السوري من لبنان، وعودة عون وجعجع إلى الحياة السياسية، وعودة الحديث عن الشراكة الوطنية والعيش المشترك.
ومع اقتراب جعجع ممن كانوا خصومه خلال الحرب والذين هادنهم قبيل توقيع اتفاق الطائف، جاء توقيع تفاهم مار مخايل بين التيار الوطني الحر وحزب الله ليعيد إحياء منطق الشراكة الوطنية من دون إقصاء أو إلغاء. وتطورت الأمور حتى استعاد المسيحيون تحقيق حضورهم في السلطة من خلال إقرار قانون انتخاب نيابي سمح لهم بإيصال أغلبية نيابية تمثّلهم فعلاً. وعاد التيار كما القوات والكتائب إلى الحكومة، مع ما يعنيه هذا الأمر في التركيبة اللبنانية الطائفية الحزبية.
إلّا أنّ هذه العودة كانت تعني حكماً منافسة من كانوا قد استفادوا من غياب القوى المسيحية، وهكذا وبغياب ضابط الإيقاع الإقليمي أو الوصي السوري، أصبح من الصعوبة بمكان إنجاز أي أمر من دون خلاف أو صراع، تم إلباسه غالباً لبوساً طائفياً. وأصبحت كل محاولة "مسيحية" لاستعادة بعض الحضور والسلطة تتم ترجمتها على أنّها محاولة انتزاع صلاحيات رئيس الحكومة التي تكرّست بموجب اتفاق الطائف. والصلاحيات هنا كانت تتعرّض للاختبار الحقيقي الأوّل بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان، والذي كان يتولّى عبر رئيس جهاز الأمن والاستطلاع فيه مهمّة حلحلة الخلافات وإنهائها بكلمة من عنجر أو من دمشق بحسب ما تقتضي الحاجة.
وفيما كان الخلاف على الصلاحيات يتمظهر حصراً بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ومن خلفهما تمثيلهما الطائفي، وقفت رئاسة المجلس النيابي بتمثيلها الطائفي في منتصف الطريق، وفي لحظة مصيرية انتقلت لتصبح طرفاً في مواجهة رئاسة الجمهورية وتحديداً مع وصول عون إلى سدّة الرئاسة. ورغم أن عون حظي بدعم من حزب الله شريك رئاسة المجلس النيابي في الطائفة للوصول إلى الرئاسة بخلاف مشيئة رئيس المجلس نبيه برّي، إلّا أنه لم يستطع أن يحظى بكامل دعم الحزب لتحقيق أيّ خرق حقيقي بمواجهة تكتل "أركان الطائف" إن صحّ التعبير. رغم أنّ عون وافق على الطائف ومندرجاته، وهو الذي وقف بوجهه زمن الوصاية السورية، إلّا أنّ خصومه استمرّوا بالتعامل معه على أنّه من خارج التركيبة.
هي التركيبة التي حكمت البلاد وأرست نهجاً خاصاً بها، وجدت نفسها بمواجهة شركاء استجدوا على اللعبة السياسية، جاؤوا ليثبّتوا معادلة جديدة في الحكم، وهو ما لم يكن في الحسبان. قبل الطائف كان ما يُعرف بصيغة الـ 43، تاريخ استقلال لبنان، جاء الطائف لينتزع الصلاحيات من الموارنة ويوزعها على مجلس الوزراء مجتمعاً، إلّا أن خلطاً وقع بين رئيس مجلس الوزراء ومجلسه، فبدا وكأن الصلاحيات آلت إلى منصب الرئيس لا إلى المجلس.
وقبل أن تتم تسوية هذه المسألة ووضع أطر تنظيمية تحدد الصلاحيات والمهام، بدأ يتسرب كلام عن مساعي لإرساء نظام ثلاثي، وبدل الثنائية المسيحية الإسلامية أصبح الحديث عن مثالثة مارونية - سنية - شيعية، وللمصادفة قيل أنّ أول من طرح هذا الأمر هم الفرنسيون أنفسهم، الذين كانوا يدعمون حتى اليوم مرشح الثنائي الوطني سليمان فرنجية إلى سدّة الرئاسة. ولا بأس من التوقف عند إصرار رئيس مجلس النيابي على مسألة إسناد حقيبة وزارة المالية إلى الطائفة الشيعية ورفض المداورة فيها، تحت عنوان التوقيع الثالث. في إشارة إلى توقيع الطائفة الشيعية الضروري للمصادقة على أي مسألة داخل السلطة التنفيذية.
من خلال ما سلف يمكن فهم محاولة منع عون من تحقيق أي إنجاز يذكر كما تطويق تكتله النيابي إضافة إلى كتلة القوات اللبنانية، على اعتبار أن عودة الفريق المسيحي الممثل حقيقة إلى الحياة السياسية يجب ألّا يحدث أي انفراج أو نجاح مهما كان بسيطاً، لأنه فيما لو حصل سيعني أن من حكموا بغياب "المسيحيين" يتحمّلون مسؤولية الفشل، أو أقلّه مسؤولية ما آلت إليه الأمور وتحديداً على صعيد السياسة المالية. وفي هذا الإطار، هل يمكن وضع منع عون كرئيس للجمهورية مع فريق حكومي تدعمه أكبر كتلة نيابية مسيحية من إنجاز خطة إصلاح القطاع الكهربائي على سبيل المثال.
ومن المفيد التنبيه إلى أنّ ما جرى خلال العهد الرئاسي السابق، معطوفاً على ما يُحضّر له من خلال العهد الرئاسي المقبل من خلال تمسّك الثنائي الوطني بترشيح سليمان فرنجية، إنّما يبشّر بولادة صيغة جديدة للحكم في لبنان، حيث يمنّي الفريق الشيعي النفس بأنّه سيحصد نتائج تقدّم محوره، فالتقارب السعودي الإيراني والسوري السعودي لا بد وأن يكون له أثره في تعزيز كفة مرشّح على آخر. وبالتالي فوز لخير على آخر.
إلّا أنّ المسألة الأخطر هي أنّ صيغة العيش المشترك تكاد تلفظ أنفاسها الأخيرة بموجب هذا التوجه الجديد. وقد تكون فرنسا قد تنبّهت إلى هذا الأمر خصوصاً مع اصطفاف الأغلبية المسيحية في البرلمان اللبناني خلف المرشّح المنافس لفرنجية، رغم أنّه أي جهاد أزعور، ليس محازباً في صفوفها. هذا التطوّر لا بدّ وأنّه دقّ ناقوس الخطر مع تصاعد المخاوف على تركيبة البلد الطائفية، في ظل الحديث عن عودة ظاهرة الهجرة المسيحية، وما يحكى عن بقاء النازحين السوريين في لبنان بحسب الرغبة الغربية.
فهل يكون فرنجية آخر الرؤساء المسيحيين في لبنان بل في العالم العربي بأكمله؟