في العام 2020، أعلنت مجموعة من العلماء في جامعة ماساتشوستس الأميركية عن تطوير جهاز لتوليد الطاقة الكهربائية من الرطوبة في الهواء. ما كان محطّ اهتمام الباحثين، في الدراسة التي نشرتها مجلة "Nature"، هو فرصة توليد طاقة نظيفة من رحم تلك التكنولوجيا بلا موانع مرتبطة بالشروط المكانية والمناخية كتلك التي تحدّ من فعالية الخلايا الشمسية، مثلاً.

الجهاز المذكور قوامه شريط رفيع مكوّن بدوره من أسلاك بروتينية نانوية بسماكة 7 ميكرومترات (الميكرومتر الواحد يساوي واحد على ألف من الميليمتر). والأسلاك هي الأخرى مستخلَصة من بكتيريا جيوباكتير "Geobacter sulfurreducens" الموصّلة بالكهرباء (electrically conductive) والقابلة لإعادة الشحن الذاتي، حيث باستطاعتها إنتاج تيار كهربائي متواصل لحوالى 20 ساعة.

يومها أيضاً، جرت الإشارة إلى أوجه شبه بين أداء الجهاز وظاهرة العواصف الرعدية. ففي الحالة الثانية، تعمل الغيوم كمولّدات تفصل بين الشحنات الموجبة والسالبة منشئة فواصل شحنة هائلة داخل السُحب. وإذ تتحرّك السُحب الرعدية، فهي تولّد شحنة معاكسة في الأرض، مرسلة ضربة برق ضوئية نحو الأخيرة. والتوازن بين الشحنات إنّما يتمّ عن طريق التفريغ بين المناطق الإيجابية والسلبية. لكن الفكرة، على ثوريّتها، بقيت رهن بكتيريا جيوباكتير كشرط أساسي للتوليد الكهربائي. كما كان ثمّة حاجة إلى مواد معيّنة واستراتيجيات هندسية لغرض التطوير على مستوى عملي تطبيقي.

وها نحن في العام 2023 الذي يأتي بأخبار سارّة ذات صلة. فمؤخّراً، اكتشف فريق من العلماء من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في أمهيرست الأميركية طريقة لتوليد الكهرباء بصورة متواصلة بواسطة أي مادة معروفة تحتوي على مسام ميكروسكوبية، تُسمّى المسام النانوية، لا تتخطّى سماكتها الـ100 نانومتر. بكتيريا جيوباكتير، والحال كذلك، لم تعد الممرّ الإلزامي للتوليد.


الدراسة نشرتها دورية "Advanced Materials" العلمية. وأهمية التقنية - ووسيلتها المستخدَمة تُسمّى "Air Gen" أو مولّد الطاقة الهوائي - تكمن في أن حجم المسام) الذي يقلّ عن جزء من ألف جزء من حجم الشعرة البشرية) يسمح لجزيّئات الرطوبة بالعبور من خلالها. وهو ما من شأنه تغيير التوازن الكهربائي بين سطحي الجهاز، وتحويله إلى ما يشبه بطارية كهربائية.

نشرح أكثر. فالعامل المسهّل للتقنية يُعرف بالمسار الحرّ الوسطي (mean free path)، أي القيمة الوسطية للمسار الذي يقطعه جسيّم ما بين تصادمَين متتاليَين. وهذا يعود إلى أن ذلك المسار يبلغ 100 نانومتر - تحديداً - عندما تعلق جزيّئات الماء في الهواء مشكّلة الرطوبة. أكثر من ذلك. فكون الرطوبة ثابتة مناخية لا تنضب، يمكن توليد الكهرباء في هذا السياق على مدار الساعة وعلى اختلاف الفصول والأحوال الجوية. وذلك يشكّل نقلة نوعية مقارنة مع الطاقة الهوائية والشمسية اللتين تنحصر فعاليتهما بظروف مناخية محدّدة.

ومن الرطوبة إلى الحرارة. فقبل أيام، أعلن باحثون من المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا في جامعة كولورادو - بولدر الأميركية إنتاج جهاز جديد يساهم جذرياً في تدعيم تقنية تحويل الحرارة إلى كهرباء. وبحسب هؤلاء، من شأن التقنية أن تؤدي، إذا ما أُحسن ضبطها، إلى الاستفادة من مئات، لا بل آلاف، المليارات من الدولارات من الطاقة الحرارية المهدورة على نطاق عالمي سنوياً.

التقنية ترتكز على وضع مئات آلاف الأعمدة المجهرية المكوّنة من مادة نيتريد الغاليوم فوق رقائق السيليكون. والحال أن التفاعل بين الأعمدة والرقائق يبطئ عمليّة نقل الحرارة إلى السيليكون ما يتيح تحوّل كمية أكبر من الحرارة إلى تيار كهربائي. الدراسة، وبعض تطبياقتها المحتملة تشمل شحن الأجهزة الإلكترونية وتبريد أجهزة الكمبيوتر، تعتمد على ظاهرة أضاء عليها الفيزيائي الألماني توماس سيبك في العام 1820. نتحدّث هنا عن "تأثير سيبك" – أو Seebeck effect - حيث يؤدي تسليط درجات حرارة مختلفة على دائرة مصنوعة من معدنَين مختلفَين ومترابطَين إلى تحريك إبرة مغناطيس محاذٍ. الفيزيائي الألماني ظنّ في بادئ الأمر أن السبب في ذلك يعود إلى المغنطة الناتجة عن اختلاف درجات الحرارة. غير أنّه أدرك في ما بعد أن تياراً كهربائياً هو خلف تحريك إبرة المغناطيس بالواقع.

وهكذا، يرى الباحثون في "تأثير سيبك" أسلوباً مثالياً لإعادة تدوير الطاقة الحرارية بدل هدْرها. لكن لِفكّ الارتباط بين التوصيلَين الحراري والكهربائي، لجأ الفريق، في سابقة من نوعها، إلى الأعمدة النانوية (nanopillars)، ما ساهم في تخفيض قدرة السيليكون على التوصيل الحراري بواقع 21% دون المسّ بخصائص التوصيل الكهربائي أو تغيير "تأثير سيبك" إيّاه. 

التحدّي الآن بالنسبة للفريق البحثي هو تحقيق قدرة الاعتماد حصراً على مادة السيليكون، معطوفاً على تصميم هندسي أفضل لاستعادة الحرارة بصورة أكثر نجاعة. أمّا الهدف، فهو التوصّل إلى مرحلة تسمح بتصنيع ذات جدوى اقتصادية. فبالحديث عن الجدوى، يقول الباحث المشارك في دراسة جامعة ماساتشوستس، شياومينغ ليو: "فتحنا باباً واسعاً لتوليد الطاقة النظيفة والمستمرّة من الهواء. الكرة الأرضية كلّها مغطاة بكميات هائلة من الرطوبة، وهي مصدر متجدّد للطاقة الكهربائية... هذه هي بداية استغلالها لا أكثر". الكلام نفسه ينطبق على تحويل الحرارة المبدّدة إلى كهرباء. وفي حمأة الانهيارات المناخية، يُعتبر كل مصدر جديد للطاقة النظيفة سلاحاً إضافياً بِيَد البشرية في وجه خطر وجودي لا يرحم.