الرغبة الأميركية والضغط الذي تمارسه الإدارة الأميركية لإنتخاب رئيس للجمهورية (بغضّ النّظر عن الأهداف) بدأ يترجم على الأرض، عبر تهديدات لن تتأخّر في التحوّل إلى أفعال
أتى كلام مساعدة وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى "بربارة ليف" والذي صرّحّت فيه أنّ الإدارة الأميركية تُفكّر بفرض عقوبات على أشخاص لبنانيين يساهمون بالفساد ويعرقلون الإنتخابات الرئاسية، ليُعيد إلى الواجهة شبح العقوبات مع ما لذلك من تداعيات على المسار السياسي والإقتصادي اللبناني.
الرغبة الأميركية والضغط الذي تمارسه الإدارة الأميركية لإنتخاب رئيس للجمهورية (بغضّ النّظر عن الأهداف) بدأ يترجم على الأرض، عبر تهديدات لن تتأخّر في التحوّل إلى أفعال خصوصًا أنّ لدى الإدارة الأميركية ملفّات جاهزة عن كلّ مُنخرط في الشأن العام في لبنان، وبالتالي الأمر لا يحتاج إلى أكثر من قرار تنفيذي من قبل الرئيس الأميركي ليتمّ وضع الأشخاص على لائحة العقوبات. وهنا يُطرح السؤال عن اللائحة التي قد يتمّ وضع الأشخاص عليها، ومدى تأثيرها على لبنان وعلى إقتصاده؟
من العقوبات الاقتصادية إلى العقوبات الذكية
يعود تاريخ العقوبات الاقتصادية إلى ما قبل الميلاد، وبالتحديد إلى العام 432 ق.م حيث فرض الإغريقيون عقوبات تجارية على الجارة "ميغارا" وذلك بهدف التأثير على سلوك الجزيرة السياسي. ويعود الفضل في التأطير النظري للعقوبات إلى العالم البلجيكي "هنري لافونتين" الذي وضع في العام 1892 مفهوم نظري أُعتمد لاحقًا من قبل المجتمع الدولي، وهو مفهوم "العقوبات السلمية".
التاريخ يُخبرنا أنّه وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، دعا الفرنسيون المجتمع الدولي إلى عزل الدول المتمرّدة عليه من خلال تطبيق عقوبات على هذه الدول، وهو ما لاقى صدى لدى الأميركيين حيث دعا الرئيس الأميركي في العام 1919 إلى مقاطعة مُطلقة للدول "العدائية". لكن تطبيق العقوبات لم يُتوّج دائمًا بالنجاح، حيث أنّ العقوبات الاقتصادية التي فُرضت على إيطاليا في العام 1935 فشلت في دفعها إلى سحب قوّاتها من الحبشة، كما أنّ العقوبات على اليابان دفع هذا الأخير إلى الانخراط في الحرب العالمية الثانية في العام 1940.
وبُعيد إنتهاء الحرب العالمية الثانية، قامت الأمم المُتحدة بتكريس مفهوم العقوبات في ميثاقها التأسيسي وجعلت القرار بين يدي مجلس الأمن الذي لم يتوانَ عن استخدامه ضد حكومات الأقلّية البيضاء في "روديسيا" وفي جنوب أفريقيا. وأخذت بعض الدول بالانفراد في فرض العقوبات على مثال الولايات المُتحدة الأميركية التي فرضت عقوبات على كوبا على خلفية أزمة الصواريخ الروسية في الجزيرة، وعلى العراق في تسعينات القرن الماضي وعلى المجلس العسكري في هاييتي وأنغولا في أواخر القرن الماضي.
نقطة التحوّل
إلّا أنّ مسار العقوبات شهد تحوّلًا ملفتًا على خلفية الهجوم الإرهابي على الولايات المُتحدة الأميركية في الحادي عشر من أيلول من العام 2001. فقد غيّرت الإدارة الأميركية من استراتيجيتها تجاه ما سُمّي بـالإرهاب وقامت برفض سلسلة من الإجراءات لتقييد حركة الإرهابيين عبر تجميد أصولهم المنقولة وغير المنقولة، وفرضت هذا الأمر على أكثر من 180 دولة من باب الأمم المُتحدة. وهذا التغيير أتى على خلفية أبحاث العالم النروجي "بوهان غالتونغ" الذي برهن أنّ العقوبات لا تُعطي بالضرورة النتيجة المبتغاة ذلك أنّ المواطنين يتأقلمون مع العقوبات، ويلتفّون في أغلب الأحيان حول "القيادة الإرهابية" المستهدف الرئيسي من العقوبات، ناهيك عن أنّ هذه الأخيرة تطال الأبرياء أكثر من الإرهابيين.
وبالتالي أصبحت العقوبات "عقوبات ذكية" كما تمّ وصفها حيث أصبحت تستهدف الإرهابيين بالدّرجة الأولى. وقد استخدمها المجتمع الدولي ضدّ الرئيس العراقي صدام حسين وفريقه في العام 2003، كذلك نظام الرئيس الليبي مُعمّر القذافي، ونظام الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ، وعلى النظام في إيران حتى العام 2015، وحديثًا على النظام الروسي وعلى العديد من شركائه من دول ومنظمات على مثال مجموعة فاغنر ودولة بيلاروسيا.
وفي العام 2012، قام الرئيس الأميركي باراك أوباما بالتوقيع على قانون ماغنيتسكي، وينصّ على معاقبة المسؤولين الروس الذين تسببوا بمقتل "سيرغي ماغنيتسكي" في سجنه في العام 2009. وهذا القانون يُعتبر فريد من نوعه بحكم أنّه يفرض عقوبات على أشخاص ارتكبوا جرائم ضد حقوق الإنسان خارج الولايات المُتحدة الأميركية. وتمّ توسيع هذا القانون في العام 2016 ليشمل كل إانتهاكات حقوق الإنسان على النطاق العالمي، حيث يسمح هذا القانون لحكومة الولايات المتحدة بمعاقبة المسؤولين الحكوميين الفاسدين والمتورّطين في الاعتداءات على حقوق البشر في أيّ مكان في العالم!
اللائحة الأميركية تبقى الأكثر استخدامًا نظرًا إلى القدرة الاقتصادية الهائلة للولايات المُتحدة الأميركية وسيطرتها على النظام المالي العالمي.
العقوبات على لبنان
كما ذكرنا أعلاه، العقوبات هي أداة تبغي تعديل السلوك السياسي والإداري للأفراد، وبالتالي هذه العقوبات تحوي على بعد سياسي كبير. ويتمتّع كل بلد بلائحة خاصّة به لتصنيف الأشخاص، إلّا أنّ اللائحة الأميركية تبقى الأكثر استخدامًا في مُعظم الدول نظرًا إلى القدرة الاقتصادية الهائلة للولايات المُتحدة الأميركية وسيطرتها على النظام المالي العالمي. وهناك لائحتان أساسيتان: الأولى لائحة الإرهاب والثانية لائحة ماغنيتسكي.
وفي لبنان، أدرجت الإدارة الأميركية العديد من الشخصيات السياسية ومن عالم الأعمال على اللائحتين. وقدّ أدّى هذا الأمر إلى الحدّ من حركة تنقل الأشخاص المدرجة أسمائهم على اللوائح وتجميد أصولهم المالية في المصارف اللبنانية، إلّا أنّها لم تُعدّل من "السلوك السياسي والإداري" لهؤلاء. وبالتالي يُطرح السؤال عن مدى فعّالية العقوبات التي تنوي الإدارة الأميركية فرضها على المسؤولين اللبنانيين الذي يُعطّلون الإستحقاق الرئاسي؟
تحليلنا للواقع اللبناني يُشير إلى أنّ هناك سيناريوهين:
- السيناريو الأوّل وينصّ على إنصياع المستهدفين وبالتالي تنفيذ المطالب الدولية في ما يخصّ الاستحقاق الرئاسي والإصلاحات الاقتصادية. وهذا السيناريو أقلّ إحتمالًا من السيناريو الثاني نظرًا إلى "الأنا" في الحياة السياسية اللبنانية والدّعم الشعبي الذي يتمتّع به بعض المعنيين.
- السيناريو الثاني وينصّ على عدم إنصياع المستهدفين إلى المطالب الدولية، وهو ما قد يؤدّي إلى تشدّد أكثر على الأرض مع تطوّر سلبي للواقع الاقتصادي والمالي والنّقدي. وإذا كانت الرّغبة الأميركية (كما يُستشفّ من تصاريح المسؤولين الأميركيين) هو عدم إنهيار لبنان، فهذا الأمر يعني أنّ فرض عقوبات على شخصيات لبنانية من الصفّ الأول، ستؤدّي إلى مزيد من "البلوكاج" السياسي والتراجع الاقتصادي. وهنا قد يكون لدى الأميركيين عدة تكتيكات لتخطّي هذا الأمر لكسر هذا الواقع، لن ندخل فيها هذا المقال، بل سنتركها لمقال مٌقبل.
غضّ نظر أم فخّ منصوب؟
مما لا شكّ فيه أنّه كان على الاقتصاد اللبناني أن ينهار منذ فترة خصوصًا بعد العام 2020 الذي شهد جريمة مرفأ بيروت، واستنزاف الإحتياطي الأجنبي من باب الدّعم، إلّا أنّ ما دعم صموده في العامين 2021 و 2022، وحتى اليوم، هو عمليّات تبييض الأموال التي تطال الاقتصاد، حيث يقوم المعنيون باستخدام النّشاط الاقتصادي لإجراء هذه العمليات في ظلّ غياب كامل (مقصود؟!) للرّقابة الرسميّة والدوليّة.
وإذا كانت مجموعة العمل المالية الدولية (FATF) قامت بتهديد لبنان بوضعه على اللائحة الرّمادية منذ فترة قصيرة، إلّا أنّها عادت وأعطت لبنان فترة سماح لتنفيذ إجراءات مُعيّنة تهدف إلى الحدّ من الاقتصاد النقدي (الباب الأوّل لتبييض الأموال). وهنا يُطرح السؤال عن السبب خلف هذا الأمر: هل هناك علاقة بين فرض عقوبات على مسؤولين لبنانيين، والتخوّف من السيناريو الثاني المذكور أعلاه، وبالتّالي غضّ نظر عن هذه العمليات، أم أنّ هذا فخّ منصوب للمعنيين لإيقاعهم، وبالتالي كشف المنظومة الإجرامية بالكامل؟
بالطبّع لا أحد يملك الجواب إلّا الأميركيين الذين يمتلكون الكلمة الأخيرة على هذا الصعيد.