تنظر مصر إلى الاشتباكات الجارية في السودان على أنّها تهديد لاستقرار هذا البلد وبالتالي لأمنها القومي، خصوصاً في ظلّ التّحدّي الذي باتت تشكّله أثيوبيا بإصرارها على إكمال بناء سد النهضة على النيل، كما أنّها تنظر بقلق إلى تدخّل إسرائيل في النزاع في السودان، عبر عرض القيادة الصهيونية للوساطة بين الطرفين المتحاربين.


في الخامس عشر من نيسان 2023 اندلع النزاع في السودان بين قوات الجيش السوداني بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، الحاكم الفعلي للسودان منذ الإطاحة بالرئيس عمر حسن البشير في العام 2019، وقوات الدعم السريع بقيادة الفريق محمد حمدان دقلو. وخلال أسبوعين من الاشتباكات في العاصمة السودانية الخرطوم وعدد آخر من المدن السودانية قتل نحو 560 شخصا وأصيب 4000 بجروح.

تدخّل قوى إقليمية ودولية

وسرعان ما أخذ النزاع في هذا البلد أبعاداً إقليمية ودولية مع تدخّل أطراف عدة في هذا النزاع. فلقد ذكرت صحيفة وول ستريت جورنال نقلاً عن مصدر عسكري سوداني أنّ الجنرال الليبي خليفة حفتر، المدعوم من دولة الإمارات العربية المتحدة، قد أرسل طائرة محمّلة بالعتاد العسكري إلى قوات الدعم السريع، كما ذكرت الصحيفة أنّ مجموعة فاغنر العسكرية تقدّم الدعم لقوات دقلو، وهو ما نفاه حفتر ورئيس مجموعة فاغنر يفغيني بريغوجين.

وقد استغلّت اثيوبيا اندلاع القتال في السودان لتحاول السيطرة على منطقة الفوشقا المتنازع عليها. ففي التاسع عشر من نيسان، بعد أربعة أيام على اندلاع القتال، ذكرت صحيفة سودانية أنّ القوات المسلحة السودانية صدّت محاولة أثيوبية للتغلغل في المنطقة المتنازع عليها، موقعة خسائر جسيمة في الأرواح والعتاد في صفوف الجيش الأثيوبي، وهو ما نفاه رئيس الوزراء الأثيوبي آبي محمد.

وقد لوحظ تدخّل مصر في النزاع لصالح الجيش السوداني بقيادة البرهان. وقد أعلنت قوات الدعم السريع في السادس عشر من نيسان أنّ طائرات مصرية قامت بقصف بور سودان، فيما ذكرت مصادر غربية أنّ مصر تقوم بتقديم دعم استخباراتي لمناصري البرهان. هذا جعل قوات الدّعم السريع تهاجم مطار مروي الذي كانت تتمركز فيه قوات جوية مصرية، فقامت بتدمير عدة طائرات ميغ 29 مصرية واسرت نحو 200 جندي مصري قامت بتسليمهم لاحقاً إلى القاهرة.

الأثر على أمن وادي النيل بالنسبة لمصر

ويعتبر التدخّل المصري في السودان متوقعاً. فعلى الرغم من العلاقات الإشكالية بين البلدين منذ أيام حكم محمد علي باشا لمصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر، مرورا بحكم الخديوي إسماعيل في النصف الثاني من ذلك القرن، مروراً بالعهدين الملكي ثم الجمهوري في مصر خلال القرن العشرين، فلقد كانت القاهرة تنظر إلى الاستقرار في السودان على أنّه أساسي وحيوي بالنسبة لها، لأنه يرتبط بأمن مياه النيل الذي يعتبر الشريان لحيوي لمصر، ولأنه يشكل حلقة الوصل بين هذه الأخيرة وأفريقيا التي تعتبر احدى دوائر النفوذ المرتبطة بالأمن القومي المصري، كما يذكر الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر في كتابه فلسفة الثورة. أما الدائرتين الأخريين اللتين تشكلان أيضا جزءًا رئيسياً من الأمن القومي المصري فهما الدائرة العربية والدائرة الإسلامية.

لذلك فإنّ مصر تنظر إلى الاشتباكات الجارية في السودان على أنّها تهديد لاستقرار هذا البلد وبالتالي لأمنها القومي، خصوصاً في ظلّ التّحدّي الذي باتت تشكّله أثيوبيا بإصرارها على إكمال بناء سد النهضة على النيل، وطموحها للعب دور في وادي النيل على حساب مصر. كما أنّها تنظر بقلق إلى تدخّل إسرائيل في النزاع في السودان، عبر عرض القيادة الصهيونية للوساطة بين الطرفين المتحاربين، علماً أنّ إسرائيل تملك علاقات طيبة بكل من البرهان ودقلو.

عدم الاستقرار في ليبيا وأثره على مصر

ولقد شكّل اندلاع الأزمة السودانية آخر حلقة من حلقات تطويق مصر بطوق من الازمات. فهذه الأزمة إلى الجنوب من مصر، تضاف إلى أزمة أخرى إلى الغرب من مصر في ليبيا التي تعاني من حروب أهلية منذ العام 2011. وكانت الحرب الليبية الثانية اندلعت في العام 2014 بين الأفرقاء المختلفين الذين سبق وتحالفوا لاسقاط الزعيم الليبي معمر القذافي. ولقد كان أطراف هذه الحرب الأهلية الثانية هما مجلس النواب الليبي ومقره طبرق من جهة وحكومة الوفاق الوطني ومقرها في طرابلس من جهة أخرى.

وكان المؤتمر الوطني العام ومقره في غرب ليبيا قد وافق على نتائج الانتخابات التشريعية التي أجريت في العام 2014، إلا أنّه عاد ورفضها بعد أن ألغت المحكمة الدستورية العليا تعديلاً يتعلّق بخارطة الطريق للمرحلة الانتقالية في ليبيا ومجلس النواب. هنا اندلع الصراع المسلّح بين المجموعات التي تؤيد مجلس النواب وعلى رأسها الجيش الوطني الليبي من جهة، وحكومة الوفاق الوطني من جهة أخرى. وقد تمكّن مجلس النواب من بسط سيطرته على شرق ووسط ليبيا، فيما تمكّنت حكومة الوفاق من السيطرة على غرب ليبيا. وقد أخذ الصراع ابعاداً إقليمية، إذ أنّ تركيا وقطر تدخّلتا في الصراع وأرسلتا عتاداً وجنوداً لدعم حكومة الوفاق الوطني، فيما تدخلت مصر والامارات العربية المتحدة لدعم مجلس النواب وقوات الجيش الوطني الليبي بقيادة الفريق خليفة حفتر.

في الرابع من نيسان 2019 أمر خليفة حفتر قوّاته العسكرية بالهجوم على طرابلس، إلّا أنّ التدخل التركي إلى جانب حكومة الوفاق أدى إلى توقف الهجوم واستقرار الجبهة في محيط سرت، بعدما تدخّلت القوات المصرية إلى جانب حفتر. وفي 23 تشرين أول 2020 تم التوصّل إلى وقف إطلاق النار بين القوات التابعة للبرلمان الليبي من جهة والقوات التابعة لحكومة الوفاق الوطني من جهة أخرى من دون التوصّل إلى حلّ سياسي ينهي النزاع في ليبيا.

الحرب في سوريا

إضافة إلى السودان وليبيا فإنّ هنالك منطقة ثالثة تعتبر جزءاً من الأمن القومي المصري وتعاني من عدم الاستقرار وهي سوريا. وقد بدأت الاضطرابات في هذا البلد في 15 اذار 2011 كجزء من الربيع العربي الذي اندلع في عدد من الدول العربية. وقد أدّى هذا إلى حرب على هذا البلد شاركت فيها دول عدة عبر دعم مجموعات مسلحة مختلفة في مواجهة الحكومة السورية. ومن أبرز هذه الجماعات هيئة تحرير الشام، وقوات سورية الديمقراطية الكردية وجبهة النصرة التابعة لتنظيم لقاعدة والدولة الإسلامية في العرق والشام داعش. وشكّلت المرحلة ما بين العامين 2012 و2017 ذروة الحرب، لتتراجع حدّة القتال بعدها مع بقاء جيوب خارجة على سيطرة الدولة السورية، مثل منطقة ادلب التي تتواجد فيها قوات مدعومة من تركيا ومنطقة شرق الفرات التي تسيطر عليها قوات سورية الديمقراطية المدعومة من قبل القوات الأميركية المتواجدة في شرق سوريا.

وقد تدخّلت عدة أطراف في هذه الأزمة فكانت إيران وروسيا وحزب الله اللبناني من أبرز الدول والأطراف الداعمة للحكومة السورية، فيما وقفت كل من الولايات المتحدة وتركيا والمملكة العربية السعودية وقطر ودول غربية أخرى ضد الحكومة السورية. وقد نشرت الولايات المتحدة قواتها في عدد من القواعد العسكرية التي أقامتها في شرق سوريا بذريعة مكافحة الإرهاب، كان من أبرزها قاعدة التنف على الحدود العراقية السورية، فيما نشرت تركيا قوات لها في منطقة ادلب، في وقت تواصل فيه إسرائيل اعتداءاتها الجوية على سوريا.

تطويق مصر

باندلاع الأزمة السودانية تكون حلقات تطويق مصر بطوق من الأزمات في منطقة مهمة لأمنها القومي قد اكتملت.

فهذه الأزمة تهدد وادي النيل، وتعزز حالة عدم الاستقرار على حدود مصر الجنوبية. أمّا الأزمة في ليبيا فهي تعزز حالة عدم الاستقرار على الحدود الغربية لمصر، فيما الأزمة في سوريا تعزز حالة عدم الاستقرار في بلاد الشام، التي تعدّ تاريخياً البوابة الشرقية لمصر. وإذا أضفنا إلى هذه الأزمات الحرب في اليمن وأثر ذلك سلباً على أمن البحر الأحمر، فإنّ الأمن القومي المصري يكون بمجمل أبعاده في حالة أزمة، ما يهدّد الامن والاستقرار في داخل مصر. هنا يبقى السؤال كيف سيكون رد الفعل على مستوى القيادة المصرية تجاه التعامل مع طوق الازمات هذا؟، وهل تملك مصر أن تقف مكتوفة الأيدي تجاه ما يجري في البلدان العربية المجاورة لها والتي تشكل جزءاً من أمنها القومي؟