جاسم عجاقة

عادت حرب العملات إلى الواجهة بشراسة كبيرة، مع توجّه واضح من قبل بعض الدول للتخلّي عن الدولار الأميركي في التعاملات في ما بينها وفي احتياطاتها من العملات الصعبة. وإذا كان موضوع التخلّي عن الدولار أمرٌ مطروح منذ فترة طويلة، إلّا أن ما يحدث حاليًا يُشكّل تهديداً جدّياً لهيمنة الدولار على التبادل التجاري في العالم.

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كان الدولار الأميركي هو العملة الاحتياطية الرئيسية والعملة الرئيسية المستخدمة في التعاملات الدولية. وقد ساعد حجم الاقتصاد الأميركي وعدم وجود حروب على الأرض الأميركية، والتوقيع على إتفاقيات بريتون وودز في العام 1944 التي أسست الدولار الأميركي كعملة احتياطية دولية، في تدعيم دور الدولار الأميركي عالميًا إن في التجارة العالمية أو في إحتياطات المصارف المركزية أو في سوق القطع.

في سبعينيات القرن الماضي، وقعت كلٌ من الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية إتفاقية أدّت إلى خلق علاقة اقتصادية وثيقة بين البلدين. ووقع وزير الخارجية الأمريكي آنذاك هنري كيسنجر مع الجانب السعودي (في العام 1973 بعد أزمة النفط) إتفاقية نصّت على أن تبيع المملكة العربية السعودية نفطها بالدولار الأميركي حصريًا، وفي المقابل وعدت الولايات المتحدة بتقديم مساعدات عسكرية واقتصادية للمملكة العربية السعودية (ما يُعرف بالبترودولار). وهذا ما أدى إلى زيادة الطلب على الدولار الأميركي في الأسواق الدولية، حيث اضطرت العديد من الدول إلى شراء الدولار لشراء النفط. هذا الاتفاق كان له تأثير كبير على الاقتصاد العالمي إذ عزز مكانة الدولار الأميركي كعملة احتياطية في العالم وسمح للولايات المتحدة الأميركية بتمويل عجزها التجاري عن طريق إصدار الدولار الذي كان يستخدم بعد ذلك لشراء النفط.

ارتفاع الثقة بالدولار دفع العديد من الدول النامية في تسعينيات القرن الماضي إلى إعتماد الدولار الأميركي كعملة ولو بشكل غير رسمي، لا سيما في أميركا اللاتينية وأفريقيا الوسطى، حيث أدّى عدم إستقرار عملات هذه البلدان وإرتفاع معدلات التضخم إلى توجّهها إلى إستخدام الدولار لتحقيق الاستقرار في اقتصادها وجذب الاستثمار الأجنبي.

الإنتقادات التي طالت البترودولار كانت عديدة، فالرئيس العراقي صدّام حسين حاول في العام 2000 بيع النفط العراقي باليورو. أما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فقد إنتقد في العام 2007 إستخدام البترودولار في السياسة الخارجية الأميركية وطالب بتعددية قطبية في التعاملات الدولية وإعتماد عملات أخرى في التعاملات الدولية كاليورو واليوان. أيضًا كان للرئيس الإيراني أحمدي نجاد إنتقادًا حادًا لإعتماد البترودولار حيث صرّح في العام 2011 أن نظام البترودولار يُسبب اختلالات اقتصادية ومشاكل سياسية للعديد من البلدان.

العديد من الإتفاقيات الثنائية تم توقيعها لاستبدال التجارة الدولية بالدولار بالعملات الوطنية. فمثلًا، وقّعت الصين واليابان في العام 2011، إتفاقية لإستخدام اليوان والين في التعاملات التجارية في ما بينهما. وفي العام 2012، وقّعت الصين وإيران إتفاقية لاستخدام عملتيهما الوطنيتين في محاولة للإلتفاف على العقوبات المالية التي فرضتها الولايات المتحدة وتسهيل التجارة بينهما. وفي العام 2013، وقّعت الصين اتفاقية مع بريطانيا لإنشاء مركز مقاصة لليوان في لندن، وكذلك حصل مع كوريا الجنوبية في العام 2014. ولم تتوقّف الصين عند هذا الحدّ، فقد وقعت في نفس العام على إتفاقية مع روسيا لتسديد المدفوعات بالروبل واليوان. كما شهد العام 2015، توقيع الصين والإمارات العربية المتحدة اتفاقية لإنشاء مركز مقاصة باليوان في دبي، وذلك بهدف تسهيل التعاملات التجارية. العام 2018، شهد العديد من الإتفاقيات في ما بين الاتحاد الأوروبي واليابان لتسهيل استخدام اليورو والين الياباني في التعاملات التجارية الثنائية، وبين روسيا والهند لاستخدام عملاتها الوطنية، وبين الهند وإيران لاستخدام عملات غير الدولار الأميركي في التعاملات البينية لتفادي العقوبات الأميركية ضد إيران.

أيضًا شهد العام 2019 توقيع روسيا على إتفاقية مع تركيا ومع إيران لاستخدام العملات الوطنية. كما أنشأ الاتحاد الأوروبي آلية دفع خاصة تسمى INSTEX لتسهيل التعاملات التجارية مع إيران باستخدام اليورو للالتفاف على العقوبات الأمريكية. كذلك وقّعت الهند والإمارات العربية المتحدة اتفاقية لاستخدام عملتيهما الوطنيتين في التعاملات البينية. وفي العام 2021، وقعت الصين والاتحاد الأوروبي اتفاقية استثمار تضمنت تسهيل استخدام اليورو واليوان الصيني في التبادل التجاري.

وعلى الرغم من كلّ الإتفاقيات التي تمّ توقيعها، لا يزال الدولار الأميركي يُهيمن على التجارة الدولية وعلى الإحتياطات بالعملات الصعبة للمصارف المركزية كما تُظهره الأرقام. على صعيد الإحتياطات، يحتل الدولار المرتبة الأولى كعملة إحتياط بأكثر من 60%، يليه اليورو مع 20%، والين والجنيه الإسترليني مع 4.5%، واليوان الصيني مع 1.1% (مصدر: صندوق النقد الدولي). وعلى صعيد التداول، يحتل الدولار الأميركي المرتبة الأولى مع 87.6%، واليورو 31.3%، والين 21.6%، والجنيه الإسترليني 12.8%، والدولار الأسترالي 6.9%... بما مجموعه 200% نظرًا إلى أن التداول يطال عملتين. أمّا على صعيد التجارة الدولية فلا يزال الدولار مُهيمنًا بشكلٍ واضحٍ مع ما يُقارب الـ 100% في القارة الأميركية، وفي أسيا والباسفيك 70%، وفي أوروبا 25%، وفي باقي دول العالم ما يُقارب الـ 80%.

[caption id="attachment_7079" align="alignnone" width="300"] حصة الدولار الأميركي في التجارة الدولية[/caption]

بيانات الأسواق المالية تُشير إلى أن مؤشر الدولار الأميركي (DXY) الذي يقيس قيمة دولار الولايات المتحدة الأميركية بالنسبة لسلة من العملات الأجنبية، يُحافظ على مستوياته على الرغم من كل الإتفاقيات والتوجّه لدى العديد من الدول للتخلّي عن الدولار في تعاملاتها الخارجية.

[caption id="attachment_7081" align="alignnone" width="300"] مؤشر الدولار الأميركي[/caption]

ويُخبرنا التاريخ أن القوة الاقتصادية للدول ارتبطت باحتياطاتها من الذهب، حيث تم استخدامها غالبًا كـ "مخزن للقيمة" للبلدان ذات الاقتصادات القوية والمستقرة. أيضًا تساعد احتياطات الذهب في الحفاظ على الاستقرار المالي من خلال السماح للحكومات بضمان قيمة عملتها وتقليل مخاطر التقلبات الاقتصادية. أضف إلى ذلك أن احتياطات الذهب تعزز مصداقية السياسات النقدية وتسمح لها بالحصول على مزيد من الاستقلالية، كما تسمح بتنويع الاحتياطات من العملات الأجنبية. على الرغم منذ ذلك، يجب القول أن احتياطات الذهب ليست العامل الوحيد لتحديد القوة الاقتصادية للدولة! إذ هناك عوامل أخرى مثل حجم الاقتصاد والإنتاجية والتكنولوجيا والبنية التحتية والاستقرار السياسي ونوعية المؤسسات وغيرها.

التخلّي عن الدولار حفزّه عدد من العوامل السياسية والإقتصادية، منها تزايد العجز التجاري الأميركي والموازنة الفلكية للإدارة الأميركية وهو ما ادّى إلى زيادة المعروض النقدي. هذا الأمر يقلل من شهية وثقة المستثمرين بالدولار الأميركي. أيضًا من العوامل التي تدفع الدول للتخلّي عن الدولار، العقوبات الاقتصادية والحروب التجارية التي فرضتها الولايات المتحدة على روسيا والصين وغيرها من البلدان مما خلق حالة غموض في استخدام الدولار في التعاملات الدولية.

إلا أن هذا التخلّي عن الدولار يواكبه مخاوف كبيرة من تداعيات هذا التخلّي، حيث لا نعلم حتى الساعة إذا كان المعنيون يعوّن خطورة الانتقال السريع إلى نظام مُتعدّد الأقطاب (على صعيد العملات). بالطبع هذا القول لا يعني تجاهل الضغوطات الاقتصادية والسياسية المتزايدة والتي تدفع نحو تحول تدريجي من نظام هيمنة الدولار إلى نظام متعدد الأقطاب. الإطاحة بالدولار الأميركي كعملة عالمية مُستخدمة في التجارة والاحتياطات من العملات الصعبة، لها تداعيات وتفرض تعديل جوهري في السياسات النقدية، حيث سيبرز دور هذه الأخيرة بشكل كبير في المرحلة القادمة.

من البديهي القول إن المتضرّر الأول من التخلي عن الدولار في التعاملات التجارية الدولية هي الولايات المتحدة الأميركية التي ستفقد من نفوذها الإقتصادي والسياسي في العالم. أيضًا سيكون للسياسة النقدية الأميركية تأثير أقلّ على الاقتصاد العالمي وستزيد كلفة الواردات ومعها سيزداد عجز الميزان التجاري. للتذكير فإن عجز الميزان التجاري الأمريكي يتم تمويله إلى حد كبير من خلال الاستثمار الأجنبي بالدولار الأمريكي، وكذلك الأمر بالنسبة للديون الأميركية التي يتم تمويلها من السندات الأميركية وبالتالي فإن ضعف الدولار سيؤدّي إلى صعوبات أكبر في تمويل الديون الأميركية وقد يؤدي انخفاض الطلب على الدولار إلى زيادة أسعار الفائدة مع ما لذلك من تداعيات على الاقتصاد الأميركي.

إلا أن هذا الضرر سيشمل حكمًا مُعظم دول العالم بشكلٍ أو بأخر، فالدول التي تستخدم الدولار كعملة إحتياط رئيسية ستخسر كثيرًا، كما أن تجارة المواد الأولية ستتعرّض للكثير من الخسائر نتيجة التقلبات في أسعار العملات ومعها سترتفع الكلفة على الإقتصادات. ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد، إذ من الضروري القول إن التجارة الدولية ستتعرّض لأزمة بسبب وسائل الدفع وغيرها من الأمور التي ستأخذ وقتاً طويلاً قبل إستقرارها. ولا يجب نسيان التداعيات على المؤسسات الدولية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي اللذين ولإستمرارهما ملزمان تعديل الإستراتيجيات المُتبعة.

أيضًا لإنهاء دولرة النظام النقدي العالمي عواقب وخيمة على لبنان الذي يتّجه نحو الدولرة الشاملة. فبعد الإحتياطات والودائع، بدأ التسعير بالدولار يشق طريقه وكذلك الأجور. وبما أن الاقتصاد اللبناني هشّ ويعتمد على الإستيراد، فإن الأسعار قد ترتفع ومعها الكلفة، كما أن الصادرات ستتعرّض لنكسة بحكم أن معظم هذه التعاملات التجارية مقومة بالدولار الأميركي. أيضًا سيكون لتكلفة التعامل بعملات غير الدولار نصيبها من الضرر حيث سترتفع العمولات على التحاويل من وإلى لبنان وحتى بين العملات في ما بينها وهو ما سيُشكل كلفة إضافية على الشركات وبالتالي على الأسعار المحلية. ويبقى الخطر الأكبر هو استمرار تقلّب سعر صرف الليرة ليس فقط مقابل الدولار بل أيضًا مقابل العملات الأخرى وهو ما سيخلق إمكانية المضاربة التي ينتظرها بعض المضاربين.

في الختام لا يسعنا القول إلا أنه وعلى الرغم من كل ما سبق، هناك مؤشرات تُشير إلى أن التخلّي عن الدولار ليس بأمر سهل. فبالإضافة إلى التداعيات السلبية على الدول، هناك أربعة عوامل جوهرية تلعب دورًا أساسيًا في الحفاظ على دور الدولار في النظام المالي العالمي:

- الأول يتعلّق بالسوقين الأميركي والأوروبي اللذين يُشكّلان مركزاً إستهلاكياً ضخماً لن تؤثر عليه إتفاقيات صينية – برازيلية ولا صينية – شرق أوسطية ولا صينية – روسية. وبالتالي ستظل الشركات العالمية تُصدّر لهذه الدول بالدولار الأميركي واليورو.

- الثاني ويتعلّق بحجم الاقتصاد الأميركي المرتكز على الإستهلاك الداخلي على عكس الصين التي تتعلق بشكل أساسي بالتصدير. وبالتالي مع التكنولوجيا التي تمتلكها الدول الغربية والأسواق الداخلية والخارجية التي تحتاج إلى منتجات الشركات الأميركية والأوروبية الممزوجة بتكنولوجيا عالية، سيبقى التصدير بالدولار الأميركي.

- الثالث ويتعلّق بالثقة التاريخية التي فرضها إستخدام الدولار الذي خضع كليًا لآليات الأسواق على عكس اليوان الصيني الذي لا يزال بعيدًا عن الإلتزام بهذه الآليات، وهو ما سيجعل من المصارف المركزية غير مُتحمّسة لإعتماد اليوان كعملة إحتياط كما تُبرزه الأرقام.

- الرابع ويتعلّق بالعلاقة السعودية – الأميركية والتي من المفروض أن تعود إلى منحاها الطبيعي بعد إنتهاء ولاية الرئيس بايدن والذي يُعتبر المسؤول الأول عن تردّي هذه العلاقة والتي دفعت بالمملكة العربية السعودية إلى التوجّه شرقًا بإتجاه الصين.