جمال واكيم
في العام 1985 توصلت القوى الطائفية اللبنانية إلى تسوية في ما بينها على شكل اتفاق ثلاثي بين نبيه بري ممثلا الشيعية السياسية ووليد جنبلاط ممثلا الدرزية السياسية وايلي حبيقة ممثلا المسيحية السياسية. ومن خلف الكواليس كان هنالك طرف رابع يستعد ليكون الركن الرئيسي في الحياة السياسية اللبنانية وهو الشيخ رفيق الحريري. هذه المعادلة كانت تشكّل البُعد السياسي لاقتصاد لبنان الريعي الذي كانت الطبقة الرأسمالية المالية النافذة في البلاد تعمل على إعادة تأهيله وفقاً لقواعد جديدة.
ترميم النظام الطائفي
شكّلت الثنائية المسيحية الإسلامية التي قامت في لبنان بعد العام 1943 الشكل السياسي لثنائية الرأسمال المرتبط بالرأسمال الفرنكوفوني الذي كانت تمثله البورجوازية المسيحية مع الرأسمال المرتبط بالبترودولار الذي كانت تمثله بالدرجة الأولى البورجوازية السنية المُطعّمة ببعض الأورثوذوكس. لكن المرحلة التي سبقت الحرب شهدت تحولات لجهة تعزيز دور رأسمال البترودولار مع تطعيم الرأسمال الفرنكوفوني برأسمل أنكلوسكسوني بالتوازي مع صعود رأسمال اغترابي كان سيعزز حضور بورجوازية شيعية صاعدة مطعمة ببورجوازية مسيحية (أورثوذوكسية بالدرجة الأولى). وكانت الحرب في جانب رئيسي منها صراعاً بين هذه البورجوازيات على الحصص في النظام السياسي اللبناني.
لذا فلقد أتت تسوية الاتفاق الثلاثي لتعيد تشكيل النظام السياسي اللبناني على أسس جديدة. فكان الشيخ رفيق الحريري هو الراعي الجديد للرأسمالية المالية اللبنانية، جامعاً بشخصه رأسمال البترودولار مع الرأسمال الفرنكوفوني المطعم أنكلوساكسونياً. وكان على الحريري أن يوزّع الحصص بنسب "عادلة" على الرأسمالية اللبنانية ممثلة بالدرجة الأولى بالقوات اللبنانية والكنيسة المارونية من جهة، وعلى البورجوازية الدرزية ممثلة بوليد جنبلاط من جهة أخرى، فيما كان نبيه بري ممثلاً للبورجوازية الشيعية الصاعدة في النظام السياسي اللبناني.
جميع الطيف السياسي اللبناني سار في هذه التسوية. وكانت التسوية برعاية سورية – سعودية – أميركية، إلا أن الولايات المتحدة سحبت موافقتها في للحظة الأخيرة نتيجة معارضة سوريا للمفاوضات السرّية التي كانت قد بدأت في أواخر العام 1985 بين منظمة التحرير الفلسطينية من جهة وإسرائيل من جهة أخرى. هذا سيدفع بالولايات المتحدة إلى إعطاء الأمر بالانقلاب على الاتفاق الثلاثي، والذي سيترجم بانقلاب سمير جعجع على ايلي حبيقة بدعم من أركان الجبهة اللبنانية وأمين الجميل في أوائل أيام العام 1986.
محنة ميشال عون
ستتواصل الخلافات السورية الأميركية حتى موعد إجراء الانتخابات الرئاسية في العام 1988، التي سيتعذر إجراؤها، ما سينتهي بتعيين الرئيس أمين الجميل لقائد الجيش ميشال عون رئيساً لحكومة عسكرية في نفس الليلة التي انتهت فيها ولايته أواخر أيلول 1988. وفي 14 آذار 1989 سيعلن ميشال عون الحرب على الوجود السوري في لبنان. لكن في ذلك الوقت كانت سوريا قد حضرت قمة فاس في المغرب وقبلت بوقف عرقلتها لمساعي السلام الفلسطينية الإسرائيلية في مقابل مكافأة لها في لبنان تمثلت بقبول الولايات المتحدة للتسوية التي كانت قد رفضتها في العام 1985 والمتمثلة بالاتفاق الثلاثي، فكان اتفاق الطائف الذي شكّل إعادة تعليب للاتفاق الثلاثي على أن تتقاسم سوريا والمملكة العربية السعودية والولايات المتحدة النفوذ في لبنان.
كانت واحدة من الجوائز التي ستقدم إلى سوريا هي رأس الجنرال الذي تجرّأ على شن حرب ضدها وأعلن انه يريد تكسير رأس حافظ الأسد. الولايات المتحدة رعت مشاركة النواب المسيحيين في الطائف، وأوعزت إلى القوات اللبنانية بالانقلاب على ميشال عون في ما سيسميه القواتيّون بحرب الإلغاء. كان على السوريين الانتظار حتى صيف العام 1990 للحصول على جائزتهم بعد وقوفهم إلى جانب الولايات المتحدة في التحالف الذي شكلته ضد العراق بعد غزوه للكويت في 2 اب 1990. وفي 13 تشرين أول ستشن القوات السورية عملية عسكرية لإزاحة ميشال عون من قصر بعبدا، فلجأ الأخير إلى السفارة الفرنسية قبل أن ينطلق منها إلى منفاه في فرنسا والتي بقي فيها حتى العام 2005.
اهتزاز الطائف
مع الإطاحة بميشال عون تم افتتاح نظام الطائف في لبنان الذي سيمتد حتى العام 2005. لكن ذلك العام سيشهد تحولاً في الموازين الدولية والإقليمية. فبذريعة الهجمات التي وقعت في نيويورك في أيلول من العام 2001، أعلنت الولايات المتحدة حرباً على الإرهاب. كجزء من هذه الاستراتيجية أرادت الولايات المتحدة فرض هيمنتها على منطقة الشرق الأوسط من المحيط الأطلسي حتى حدود الصين. لذا قامت القوات الأميركية باجتياح أفغانستان في العام 2002 ثم العراق في العام 2003، وتم تسميم ياسر عرفات في أواخر العام 2004 ليتم اغتيال رفيق الحريري في شباط من العام 2005.
شكل هذا الاغتيال إعلاناً لنهاية الطائف في لبنان، واتهمت واشنطن وحلفاؤها سوريا بمسؤوليتها عن هذا الاغتيال، ودعمت انتفاضة شاركت فيها المسيحية السياسية بأغلبها، والدرزية السياسية ممثلة بوليد جنبلاط وأنصاره، والسنية السياسية ممثلة بأنصار الحريري وغيرها من القوى المرعية سعودياً. لكن الانقلاب في لبنان لم يتم، نتيجة معارضة الشيعية السياسية ممثلة بنبيه بري، ونزول أنصار حزب الله وحلفائه إلى الشارع معبّرين عن معارضتهم لهذا الانقلاب.
بنتيجة عدم اكتمال عناصر الانقلاب سعت الولايات المتحدة إلى احتواء حزب الله، مما أتاح لرئيس مجلس النواب نبيه بري أن يقوم بمناورة تستند إلى قواعد الاتفاق الثلاثي، وذلك عبر إقامة تحالف انتخابي بين حركة أمل التي يتزعمها، والقوات اللبنانية التي كان زعيمها سمير جعجع قد خرج من السجن، والحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط. وكان ذلك بمباركة من البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير. وقد استطاع برّي إقناع حزب الله بالدخول في هذا الحلف، وهو الذي كان يريد الدخول إلى السلطة لوضع فيتو على أي قرار موجه ضده. كان هذا الحلف يسعى لترميم صيغة الطائف التي اهتزت بعد اغتيال الحريري، وكان لهذا الطائف خصم وحيد هو الجنرال ميشال عون الذي كان يتحضّر للعودة من منفاه الباريسي ليخوض الانتخابات النيابية المقررة في ربيع العام 2005.
الجنرال والسيد
حاول أركان الحلف الرباعي إعاقة عودة الجنرال حتى يتسنى لهم تمرير الانتخابات والحصول على النتائج التي يبتغونها. لكن الجنرال عاد ليقود معركة انتخابية ناجحة سيحصل فيها على تسعين بالمئة من النواب في المناطق ذات الغالبية المسيحية أي المتن الشمالي وكسروان وجبيل. شكّل هذا صفعة للحلف الرباعي وللبطريرك صفير.
استطاع الحلف الرباعي إبعاد التيار عن المشاركة في الحكومة وكان على الجنرال أن يتزعم المعارضة المسيحية للحكومة التي شكلت بعد العام 2005 برئاسة فؤاد السنيورة والتي اعتبرت امتداداً للطائف. لكن حزب الله الذي بدأ يستشعر سياسات عدائية من قبل حكومة السنيورة، والذي كان يشك بنوايا القوات اللبنانية ووليد جنبلاط ومن خلفهما الولايات المتحدة، بدأ يبحث عن بديل يقيم معه شراكة سياسية. هنا بدأ بإجراء اتصالات سرية مع عون "المعزول" سياسياً من قبل أركان الحكم، ليفاجىء الجميع بتوقيع تفاهم كنيسة مار مخايل معه. كان صهر الجنرال جبران باسيل هو أبرز من سعى لتوقيع هذا التفاهم وكان في ذهنه إقامة شراكة سياسية مع طرف مسلم (شيعي) ترقى إلى الشراكة التي سبق وأقامها بشارة الخوري مع رياض الصلح في العام 1943.
شكل تفاهم مار مخايل "ضربة معلّم" من قبل حزب الله الذي سيقيم تحالفاً سياسياً يعطيه عمقاً مسيحياً من جهة، ويجعله أكثر استقلالية في تعاطيه مع شريكه الشيعي نبيه بري من جهة أخرى. وبالنسبة للجنرال عون، فإن هذا التحالف السياسي سيكسر عزلته من جهة ويعزز موقعه في الضغط على الحكومة من جهة أخرى. وسيثبت هذا التفاهم نجاعته في محطتين رئيسيتين هما عدوان تموز 2006 حين أعطى ميشال عون عمقاً وطنياً ميثاقياً للمقاومة، في وقت كانت جميع القوى الأخرى تحاول التآمر عليها لصالح الولايات المتحدة، وأحداث 5 – 7 أيار 2008 حين قامت حكومة السنيورة باتخاذ قرارات ضد حزب الله، واجهها هذا الأخير بعملية عسكرية خاطفة أدت إلى تراجع الحكومة عن قراراتها.
خرج حزب الله أقوى بعشرات المرات مما كان عليه بعد هذين الحدثين، وكان عليه أن "يرد الجميل" لحليفه، فكان اتفاق الدوحة الذي أحدث تعديلا في اتفاق الطائف لجهة إدخال التيار الوطني الحرّ إلى الحكومة بحصة وزارية وازنة، ولجهة نزول الجميع عند رغبة جبران باسيل في الحصول على الوزارات التي يريدها. وستتوج هذه المرحلة بتعطيل حزب الله للانتخابات الرئاسية بعد نهاية ولاية الرئيس ميشال سليمان لعامين ونصف العام كرمى لعين ميشال عون الذي طرح نفسه مرشحاً لرئاسة الجمهورية. وسينجح الحزب بوصول ميشال عون إلى الرئاسة بعد تسوية أجراها جبران باسيل مع سعد الحريري، نال عليها الاخير رضى سعودي في ظل انتقال السلطة في المملكة بعد وفاة الملك عبد الله في العام 2014 وخلافة أخيه سلمان له، علماً أن سعد الحريري كان قد أوحى للملك وللأمير محمد بن سلمان أن تسويته مع جبران باسيل ممكن أن تساهم في تقليص نفوذ حزب الله في لبنان، وللمقال تتمة.