لماذا نصر في لبنان على جلد أنفسنا وعلى اتّخاذ الأوهام وقائع بديهية؟
نعلم جميعاً أننا نعيش في واقع مأزوم. ونأسفُ لأننا نطالبُ بالمحاسبة ونرى أن المحاسبةَ لا تعدو كونها وعداً من الصعب أن ينفَّذ، في الوقت الحاضر على الأقل، لأننا لا نعرف مَن سيحاسب مَن!
نعرف أن المسؤولين الآن يسعون جاهدين لوقف الفوضى التي عشّشت في دوائر الدولة ومؤسساتها حتّى أنها بنت لنفسها ثقافة يستغرب كثيرون حين لا تعتنقها ولا تؤمن بها. أبرزُ مظاهر هذه الفوضى غياب الرقابة على الحدود البرية وما يقال عن طواعيتها في الموانئ البحرية والجوية. هذا التفلّت يميّز بين اللبنانيين ويجعل بعضَهم مستفيداً في الكثير وبعضَهم الآخر مستفيدا في القليل وبعضَهم الثالث محروماً من جنّة المال الحرام المنظَّف.
أحدُ المظاهر الأساسية لثقافة الفساد استمرارُ انتشار السلاح في أيدي الجميع. من السلاح الفردي الذي يقال إنّ لا بيت ولا منطقة في لبنان تخلو منه، إلى السلاح المتوسط والثقيل، وخصوصاً ذلك الذي لا يزالُ في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين رغمَ أنه فقد دوره. وثمة من يشير الى سلاح يقول عنه إنه نوعي، ولا يزال في أيدي من يستمرون في شهر شعار المقاومة رغم أن حامليه جلوا عن منطقة التماس مع إسرائيل وتفرّجوا عليها وهي تسوّي بالأرض ما لم تكن سوّته في القرى الحدودية أيام حرب الإسناد.
حين يقرّ الجميع بأن الصحيح هو حصر كل السلاح على كامل الأراضي اللبنانية في يد الأجهزة الرسمية، أي الدولة اللبنانية بقواها الذاتية. وإذا سلّمنا جدلاً بمنطق بقاء بعض الأسلحة الفردية في أيدي المواطنين، وفق تنظيم صارم يحصيه ويعرف ما هو ومن حاملوه، لا يمكن في المقابل أن نجد تبريراً لاستمرار تكديس السلاح في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين ولا في مخيّمات النازحين السوريين، وهو يُستخدَم أحياناً كثيرةً في عمليات مخلّة بالأمن.
لم يعد ينفعُ التبريرُ القائل إن الذين يتمسكون بسلاحهم رغم فقدان دوره إنما مضطرّون للتمسك بسلاحهم لأن الدولة غابت عن حمايتهم. وإذا كانت الدولة قد تخلت عن حمايتهم فإنها كانت أيضاً متخلية عن مناطق كثيرة أخرى. فغيابُ الدولة لم يخصّص منطقة دون أخرى، بل شملَ المناطق جميعاً. والصحيح أيضاً أن منطقة الجنوب شهدت اهتماما خاصاً من الدولة ومن مختلف أجهزتها الإنمائية والعمرانية والسياحية، وإن يكن هذا الاهتمام أفاد أشخاصاً بعينهم. ومع ذلك، لم يصمد إبّان حرب الإسناد الكثيرمن مظاهر الاهتمام الإنمائي بالجنوب.
ألا يناقضُ منطقُ الحماية الذاتية النتائجَ التي وصل إليها؟ أليس من الملاحَظ أننا تدرّجنا من حدودنا الجنوبية المرسّمة أيام الانتدابين الفرنسي والبريطاني والتي كرستها اتفاقية الهدنة إلى الخط الأزرق، وهو داخل حدودنا، بعد "التحرير" عام 2000؟ وتدرّجنا من الخط 29 لحدودنا البحرية، المرسّمة أيضاً زمن الانتدابين والتي أقرها اتفاق 17 أيار 1983 (الذي ألغي لاحقاً) إلى الخط 23، وهو الخط الذي رسم إطارَه العام رئيسُ مجلس النواب، ووقّعه رئيس الجمهورية المتمسك بصلاحية توقيع المعاهدات (بين لبنان وإسرائيل) متنازلين عن نحو 1400 كيلومتر مربّع؟
آن الأوان أن نعيدَ للدولة ما هو للدولة وأن نعود جميعاً إلى كنفها. فالتجربة أثبتت أنها وحدُها الحامية وأن كلّ تصرف فردي أو متفلّت دفّع لبنان تنازلاً عن حقوقه.