لا تهملُ الولايات المتحدة الأميركية أيَ ملفٍ من الملفات المطروحة على الساحتين الإقليمية والدولية. فكل هذه الملفات مهمة واستراتيجية بالنسبة إليها ولكنّ الاولويات في شأنها مختلفة، اذ انها تعطي الأولوية لملف ما حيناً على حساب ملفاتٍ أُخرى تبعاً لطبيعة المرحلة التي تحوطُ بكل ملف.

بينما تهتم الولايات المتحدة بلبنان وإسرائيل والضفة الغربية وغزة سواها نراها تضع سوريا في مقدّمِ اهتماماتها في هذه المرحلة على رغم من انشغالها بالملف النووي الإيراني والمفاوضات الجارية بينها وبين طهران في شأنه.

وفيما قررت الولايات المتحدة الأميركية الانسحاب من سوريا، سارعت الى مزيد من التقارب مع روسيا دافعة في اتجاه وقف الحرب الاوكرانية ـ الروسية ومستعدة للاعتراف بما كان قائماً قبل العام 2022 أي الاعتراف بالسيادة الروسية على شبه جزيرة القرم واعتبار الأقاليم التي سيطرَ عليها الروس في الشرق الأوكراني كـ "الضفة الغربية" في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ومن غير المستبعَد أن يكون الانسحاب الأميركي المقرر من سوريا جزءاً من اتفاقٍ يقوم على معادلة أن لا يكون للأميركيين والروس معاً أي وجود عسكري مباشر لهم على الأراضي السورية .

ومن المتوقع أن ترفعَ الولايات المتحدة قريباً العقوبات التي تفرضُها على سوريا بموجب "قانون قيصر" وغيره ولكن وفق شروطٍ عدة أبرزها:

ـ أولاً، إزالة القواعد العسكرية الروسية في طرطوس واللاذقية في شكل نهائي.

ـ ثانياً، أن تتفقَ الحكومة السورية مع الأكراد على شاكلة الاتفاق الذي كان حصل بين الرئيس السوري احمد الشرع وبين قائد "قوات سوريا الديمقراطية" المعروفة بـ"قسد"، مظلوم عبدي الذي أمّن الأميركيون انتقالَه من المنطقة الكردية قبل أسابيع الى دمشق في طوافة عسكرية لتوقيع الاتفاق مع الشرع ثم إعادته منها، بحيث تكون سوريا دولة مركزية تحفظ كل الأقليات فيها ولا سيما منها الأقليتان الدرزية والكردية.

إلا أن ما هو غيرُ واضحٍ مصيرُه في الاتفاق وخارجِه ولا يأتي أحدٌ على ذكرِه حتى الآن هو "بلوكات" الغاز والنفط في البحر السوري التي كان النظام السابق قد لزّمها لروسيا.

ترامب تقصّد أن يمتدح أردوغان

وفي ظلِّ كل هذه المعطيات، وبغضِ النظر عن القضم الإسرائيلي لمساحات واسعة من الجنوب السوري، تتجه الأنظار إلى سوريا لأنها باتت تشكل فرصةً كبيرة للاستثمارات السياسية والاقتصادية المختلفة فيما يرتدي الاهتمام بلبنان طابعاً أمنياً وعسكرياً أكثرَ منه سياسي.

ومن المحتمل أن يكونَ للرئيس الأميركي دونالد ترامب لقاءٌ مع الشرع في الرياض، على هامش زيارته المملكة العربية السعودية، خصوصاً في ظل تطور العلاقة ايجاباً بين سوريا والمملكة وسائر دول الخليج. ومن المحتمل أيضاً أنّ هناك اتفاقاً حول سوريا حصل بين الولايات المتحدة وتركيا بعلم إسرائيل ويأتي الانسحابُ العسكري الأميركي من ضمنه، وذلك في خلال زيارة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان الأخيرة لواشنطن. وهذا التفاهم دلّ الى جوانبَ منه توقُّفُ تركيا عن قصف المناطق الكردية، وزيارة وفد من الكونغرس الأميركي يضم عضوين جمهوريين بارزين لدمشق حيث اجريا مع الشرع ووزير خارجيته اسعد شيباني محادثاتٍ قيل إنها "مهمة جدا". كذلك كان من نتاج هذا الاتفاق الاميركي ـ التركي حصول عملية تسليم وتسلم بين قوات النظام السوري الجديد وبين قوات "قسد" في منطقتي "الطبقة" والفرات حيث تسلّم الجيشُ السوري هذه المناطق بعد لقاءات حصلت أخيرا بين الزعيم الكردي مظلوم عبدي والمسؤولين السوريين والأتراك في كل من دمشق وأنقرة.

وعليه، فإن سوريا ستكون بعد اليوم خاضعة بمقدار كبير للتفاهم التركي ـ الأميركي وليس لتفاهم تركي ـ إسرائيلي علماً انه كان يحكم سوريا ايام النظام السابق تفاهمٌ روسيٌ ـ إسرائيلي وفق قواعدَ اشتباكٍ محددة. وأبرزُ دليلٍ على ذلك التفاهم الأميركي ـ التركي، أن ترامب عرض على رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو خلال لقائهما الاخير في البيت الأبيض، التوسط بينه وبين الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، إذا كانت لديه مشكلة معه حول الوضع السوري وغيره، بل إن ترامب تقصّد أن يمتدح أردوغان على مسامع ضيفه الاسرائيلي ليؤكدَ قوةَ التفاهم الحاصل بين واشنطن وانقرة حول مستقبل الوضع السوري.

وإزاء الموقف الخليجي الحذر أو المتحفظ أحيانا عن تعاظم النفوذ التركي في سوريا، تراوح العلاقة بين الجانبين "بين البرودة والدفء"، ولكن في الإجمال يمكن وصفها بأنها "جيدة بدليل العلاقة الممتازة بين قطر وتركيا، وكذلك العلاقة بين أنقرة والرياض التي تشتري السلاح والمسيَّرات التركية. أما العلاقة بين أنقرة ومسقط وأبو ظبي وغيرِهما فلا يبدو أن هناك شوائب تعتريها. ويبدو أن السبب في تطور هذه العلاقة من الحذر إلى الإيجابية هو أن الجانب التركي بدأ يتحلى بالمرونة، أقله ظاهرياً، حول سوريا لإدراكه أنه لا يمكنه إقامة نظام إسلامي صرف فيها حتى لا يتكرر فشل التجربة الإسلامية التي حصلت في مصر أيام رئاسة محمد مرسي الإخوانية، ولذلك بدأ الأتراك يتحدثون عن أهمية أن يكون النظام السوري الجديد أكثر قبولاً لدى دول الخليج العربي تجنبا لأي صدام مع هذا المحيط مستقبلاً.

وعليه، فإن أهمَ شخصية في تركيبة النظام السوري الجديد بعد الشرع هي وزير خارجيته الشيباني الذي حضر مؤتمر ميونخ الأخير وكانت له لقاءات مع نظيره التركي، في الوقت الذي تربطه علاقة جيدة بالإدارتين الأميركية والتركية، إلى درجة أن الشيباني يوَصّف بأنه "ذراع الشرع القوية" ويتمتع بمواصفات "رجل الدولة".

المعروف أن سوريا كانت في كل العصور توصَف بأنها "قلب العروبة النابض" أيا تكن طبيعة النظام الذي يحكمها، فهل يراد لها بعد كل ما جرى أن تكونَ "قلبَ الحلول النابض" لأزمتها وبقية الأزمات في لبنان والمنطقة؟