لبنانُ، ومنذ خمسين سنة، أو قل أكثر بكثير، مصلوبٌ على خشبات الأزمات والحروب والمؤامرات والخلافات الداخلية.

مصلوب، صحيح، لكن الأصحَّ أنه ما زال يسير على درب جلجلة، مراحلها أكثر من مراحل جلجلة المسيح، وأطول، وإن لم يجُزِ التشبيه.

لبنان، في معاناته الجراح والجلد والتعذيب وتجرُّع الخل والمر والطعن بالحراب والاقتراع على ثوبه، يحاكي بعض ما عاناه السيد، طوال حياته على الأرض، من الولادة إلى الصَّلب... على أمل ألَّا يطول أكثر زمنُ قيامته.

فيسوع هو الجمال المطلق.

ولبنان الجمال شبه المطلق.

لكنَّ أجمل ما في الجمال، لحظةٌ ووقفة.

شعب يسوع الذي انتظر مجيئه طويلًا، خانه وسلَّمه... اصلبوه.

وشعب لبنان الذي انتظر طويلًا، منذ قيام لبنان، أن يبني دولة حقٍّ ومؤسسات، بقي أسير طوائفه وشرانقه وولاءاته الخارجية، فخان لبنان وسلَّمه إلى أهل قرار وربط وحل خارجيِّين وإقليميين، كأني بهذا الشعب حمى "برأبَّا" الطائفة، ليطالب بأعلى صوت، للبنان: اصلبوه.

تلاميذ يسوع... واحد منهم خان. والآخرون، ما خلا واحدًا، جبنوا، أو هربوا، أو اختفوا، أو شككوا... أي إنَّهم ارتكبوا أنواع الخيانات جميعًا.

وتلاميذ لبنان، شعبه، كثرٌ منه خانوا، فيما الآخرون، ما خلا قلةً قليلة، جبنوا، أو هربوا، أو اختفوا، أو تآمروا، أو شككوا، أو تعامَوا عن سبل الخلاص... فارتكبوا في حق وطنهم أبشع أنواع الخيانات جميعًا.

الحاكم التَّافه الذي وقف أمامه يسوع ليحاكَم، ظنَّ أنَّه، وهو مدجَّج بـ "جبروته"، يمنُّ على رجلٍ أعزلَ مسالم، بفرصة... لإنقاذ نفسه. هذا الحاكم المتوَّج بالجهالة، خان المعرفة والحقيقة، حين تناسى أنَّ السُّلطان المعطى له، إنَّما هو من الله، لا من البشر.

أما القيِّمون الخارجيُّون، من زمان، على الحكم في لبنان، بالإذن من أصحاب الفخامة والدولة والسيادة والسعادة المحليين، فوقف أمامهم لبنان عنيدًا، متوكئًا على تاريخه وقيمه وعطاءاته للبشرية ودوره وصيغته المميزة وملاعبته الخطر والموت، ومتَّكلًا على غضبة شعبه وعنفوانه وأصالته... فما وُفِّقَ بعد، وبلا منَّة من أحد، في القبض على فرصة تنقذه من أزماته الكثيرة، وتخلِّصه من عثرات أبنائه المتراكمة، فيحظى بطبقة حكَّام تعرف معنى الكرامة، وترفض الارتهان والتبعيَّة... ولسان حال لبنان الصامت على مضض أمام الجبروت العالمي والإقليمي، يذكر هذا الجبروت، بما قاله الشاعر اليوناني نونوس في بيروت، وبيروت قلب لبنان، سنة 450: "الخلاف الذي يدمر الدول سيستمر، ولن يتحقق السلام، إلا حين تصبح بيريتوس، أي بيروت، ضامنة النظام، هي قاضية الأرض والبحار، خصوصًا حين تتحصن المدن بقوانينها"... وهكذا لبنان اليوم وغدًا.

صمتَ يسوع، أمام شعبه وتلاميذه... ولم يردَّ على عجرفة الحاكم، لأنَّ القيمة الكبيرة لا تردُّ على القيمة الصَّغيرة.

صمتَ لبنان، وعضَّ على جراحه الكثيرة، وما زال يحتضن أبناءه: المصرَّ على البقاء فيه مهما كلف الأمر، المجبرَ على البقاء لعجز عن السفر، المهاجرَ تاركًا أطلالًا للحنين، المُعِدَّ وطنه فندقًا للسِّياحة ليس إلَّا ينزل فيه بين سِلْمٍ وسلم... لأنَّ لبنان كان ويبقى وسيبقى القيمة الإنسانية الكبرى، في عالم جرَّد نفسه، بإرادته، من القيم، مذ راح يعبد الإله الأخضر.

انسحب يسوع إلى صمته، إلى صلبه وموته. قال غفرانه وصعد...

كابر لبنان على ألمه وغُصصه وخيباته من أهله ومحيطه والقيمين على القرار العالمي، وما زال مصلوبًا، يحملُ خشبته على كتفيه ويسير، منتظرًا مرحلة جديدة من جلجلته الطويلة. يقول أكثر من آخ ويصبر.

أمَّا بقيَّة الحكاية... فالمسيح حقًّا قام.

وأما بقيَّة الحكاية... فلبنان لا بد سيقوم.

أمس رددنا: اليوم عُلِّقَ على خشبة.

غاب النَّهارُ، وبقيت الخشبة.

ربِّ... اجعلني أهلًا لأكون ظلًّا لتلك الخشبة.

وغدًا نرتِّل: مريمُ كُفِّي البكاء،

المسيح حقًّا قام.

وغدًا أيضًا ترتِّل أمانينا: مريم الأقلام

كُفِّي عن الحبر

فوحيدُك لبنان... قام من بين القصائد.