الكحل ليس مجرد خط أسود يحيط العين ويزيّنها، بل أثراً خالداً رسمته الحضارات على الجفون. هذا المسحوق الداكن الذي عبر الأزمنة، حمل في عمقه أكثر من جمال بصري؛ إنه مرآة ثقافات، وطقس شفاء، ورمز مقاومة، وبيان هوية. من معابد الفراعنة إلى عروض الأزياء، ومن التقاليد الشعبية إلى حملات التجميل العالمية، ظلّ الكحل حاضرًا، يُعيد تعريف دوره مع كل عصر من دون أن يفقد جذوره.

الكحل في الحضارات القديمة: الحماية قبل الزينة

في مصر القديمة، لم يكن الكحل مظهرًا من مظاهر الزينة فقط، بل كان أداة للوقاية والعقيدة. كان يُستخرج من معادن مثل الجالينا (كبريتيد الرصاص)، ويُطحن ليصبح بودرة داكنة تُستخدم لتحديد محيط العين.

لكن المصري لم يضعه من أجل الجمال فحسب. الكحل كان درعًا: يقي من أشعة الشمس الصحراوية، ويُعتقد أنه يطرد الأرواح الشريرة، ويمنع التهابات العين. فالنساء والرجال، الأطفال والكهنة، الفراعنة والجنود، جميعهم تزينوا بالكحل، في تعبير جماعي عن تقاطع الجمال بالحماية.

أما في حضارة وادي السند، وبلاد الرافدين، وفي شبه الجزيرة العربية، فقد كانت للـ"سورما" أو "الإثمد" وظائف مشابهة: تراث شفهي طويل يربط الكحل بالقوة، بالبصيرة، وبالشفاء.

ومع تحوّل الحضارات، حافظ الكحل على مكانته، لكنه غيّر وظائفه. في العصر الإسلامي، اكتسب بعدًا دينيًا، خصوصًا كحل الإثمد، الذي نُسب إليه تقوية البصر، وتثبيت النظر، ووردَ في أحاديث نبوية كثيرة.

الكحل في العصر الحديث

مع دخول العالم عصر الحداثة، تراجعت بعض الاستخدامات الطبية والدينية للكحل، لكنها لم تختفِ، بل أعادت التشكل في سياقات جديدة. في بدايات القرن العشرين، ظهر الكحل في خطوط موضة السينما الصامتة، إذ كانت الممثلات يستخدمنه لتحديد عيونهنّ بشكل درامي يبرز تعابير الوجه على الشاشة البيضاء، فتحوّل من رمز حماية إلى أداة الإغراء للعين.

ثم جاءت الموجات النسوية في الغرب لتمنح الكحل بعدًا جديدًا: بيان تمرد أنثوي. في الستينات والسبعينات، أصبح الكحل جزءًا من إطلالة المرأة المستقلة، القوية، الخارجة عن قوالب المجتمع التقليدية.

الكحل في الثقافة الشعبية: من سيناء إلى Sephora

في المجتمعات العربية، بقي الكحل مرتبطًا بالهوية التراثية. لا يزال يُستخدم في طقوس الولادة، الزواج، وحتى الحداد. وعلى الرغم من تطور المستحضرات التجميليّة الحديثة، بقي الكحل الطبيعي يُباع في الأسواق الشعبية، مطحونًا في علب نحاسية أو فضية، تُحفظ معها ذاكرة الأمهات والجدّات.

لكن الكحل لم يَعُد حكرًا على الأسواق الشرقية. تبنّت شركات التجميل العالمية هذا المنتج، وبدأت تسوّقه بعبوات فاخرة، وأسماء مستوحاة من الشرق. "كحل الصحراء" و"نظرة النيل" و"عيون الأندلس" – كلها أسماء تجارية تستعيد سحر الماضي في قوالب عصرية.

رمزية الكحل: بين العين والهوية

اليوم، لم يعد الكحل مجرد أداة تجميل، بل هو تعبير عن موقف. تضعه بعض النساء العربيات كرمز تمسّك بالهوية، أو تفصيل صغير يعيد وصل الحاضر بالماضي. وفي مناطق النزاع، وُثّقت حالات استخدم فيها الكحل كوسيلة لحفظ كرامة المحتجزين، أو حتى لإخفاء الدموع. إنه تفصيل صغير، لكنّه في حالات كثيرة، يروي قصصًا أبعد من العين نفسها.