في ظل أزمة كهرباء مزمنة يعيشها لبنان منذ عقود، تبدو الطاقة الشمسية وكأنها الأمل الأكثر واقعية للخروج من الظلمة والانقطاعات اليومية. وفي خطوة تعكس وعياً متنامياً بأهمية تسريع التحوّل نحو مصادر الطاقة المتجددة، عقد وزير الطاقة والمياه جو الصدّي اجتماعاً حاسماً مع ممثلي الشركات الإحدى عشرة التي كانت قد حصلت على تراخيص لإقامة مزارع طاقة شمسية، بموجب قرار مجلس الوزراء رقم 34 الصادر في 12 أيار 2022. لكن هذه التراخيص، رغم مرور أكثر من عامين على صدورها، بقيت "نائمة في الأدراج"، كما وصفها الوزير، دون أن تنتقل إلى مرحلة التنفيذ الفعلي.
خطوة لكسر الجمود… ومهلة أخيرة
الوزير الصدّي أعطى الشركات المعنية مهلة نهائية حتى 31 كانون الأول المقبل لاستكمال المستندات المطلوبة والالتزام بالشروط الفنية والقانونية للانتقال إلى مرحلة التنفيذ. وإلا، فإن مصير هذه التراخيص سيكون إما البيع لشركات قادرة على التنفيذ، أو الإلغاء الكامل في حال استمرار التعثر. هذا التهديد غير المباشر يعكس جدّية الوزارة في التعاطي مع ملف الطاقة المتجددة، ورغبتها في تجاوز حالة الجمود التي عطّلت مشاريع حيوية من شأنها أن تغيّر مشهد الطاقة في لبنان.
الرسالة الأساسية التي أراد الوزير إيصالها من خلال هذا الاجتماع واضحة: لم يعد مسموحاً أن تبقى التراخيص حبراً على ورق، بينما يعاني اللبنانيون من تقنين قاسٍ في التغذية بالكهرباء، يترافق مع ارتفاع فواتير الاشتراك بالمولدات الخاصة، وعبء بيئي متزايد نتيجة الاعتماد على مصادر طاقة ملوثة ومكلفة.
أبعاد القرار… ما بين السياسة والطاقة والاقتصاد
هذا التحرك لا يمكن قراءته فقط في سياقه الإداري أو الفني، بل يجب فهمه في إطار أوسع يرتبط برؤية الدولة اللبنانية – أو ما تبقى من مؤسساتها – للمرحلة المقبلة. إن إحياء هذه المشاريع قد يشكّل أحد المسارات الواقعية القليلة التي يمكن أن تفتح أفقاً اقتصادياً وتنموياً حقيقياً في بلد يعاني من انهيار بنيوي.
فمن الناحية الاقتصادية، نجاح هذه المشاريع يعني تأمين جزء من الطلب المحلي على الكهرباء بكلفة أقل واستقرار أكبر، ما سينعكس على تخفيض الفاتورة الكهربائية للمواطن، وتحفيز الاقتصاد المحلي، وخلق فرص عمل في مجال الإنشاء والصيانة والتشغيل.
أما من الناحية البيئية، فهي خطوة في الاتجاه الصحيح نحو تقليص الاعتماد على المولدات الخاصة التي تشكّل عبئاً بيئياً كبيراً من حيث الانبعاثات والتلوث السمعي والبصري، فضلاً عن تهديدها للصحة العامة.
وفي السياق السياسي، تعكس هذه الخطوة نضجاً في خطاب وزارة الطاقة التي كانت لسنوات في قلب العاصفة بسبب فشلها في تأمين الكهرباء للمواطن اللبناني. واليوم، مع هذا التوجه الجديد، تُمنح الوزارة فرصة لإعادة بناء الثقة بينها وبين المواطنين، شرط أن تلتزم بتنفيذ ما وعدت به.
حجم قطاع الطاقة الشمسية في لبنان: نمو رغم التحديات
رغم الانهيار الاقتصادي والمالي، شهد قطاع الطاقة الشمسية في لبنان نمواً لافتاً خلال السنوات الثلاث الأخيرة، مدفوعاً بانهيار شبكة كهرباء الدولة، وارتفاع أسعار الوقود، وسعي الأفراد والمؤسسات نحو حلول بديلة. فبحسب تقديرات حديثة، تجاوزت القدرة المركبة للطاقة الشمسية الموزعة في لبنان حاجز 750 ميغاواط بحلول أواخر عام 2024، معظمها مركّبة على أسطح المنازل والمؤسسات الخاصة.
لكن ما يزال هناك نقص واضح في مشاريع المزارع الشمسية الكبيرة التي من المفترض أن تساهم بشكل فعّال في تغذية الشبكة الوطنية وتخفيف الضغط عن مؤسسات الإنتاج التقليدية. وهنا تأتي أهمية التراخيص الإحدى عشرة التي تسعى الوزارة إلى تحريكها: فهي قادرة على إحداث فرق نوعي، إن تم تنفيذها فعلاً.
أهداف التنمية المستدامة والطاقة المتجددة
الاجتماع بين الوزير وممثلي الشركات تضمّن تذكيراً بالهدف الوطني الطموح: أن يشكّل الطاقة المتجددة 30% من إجمالي استهلاك الكهرباء في لبنان بحلول 2030، وهو هدف ينسجم مع التزامات لبنان الدولية ضمن خطة التنمية المستدامة واتفاق باريس للمناخ.
ولتحقيق هذا الهدف، لا بد من تفعيل شراكة حقيقية بين القطاعين العام والخاص، وتقديم حوافز استثمارية جاذبة، إلى جانب تشكيل هيئة تنظيم قطاع الكهرباء، التي اعتبرها الوزير "الحاضنة الأساسية" لمشاريع الطاقة المتجددة، كونها تضع الأطر القانونية والتنظيمية اللازمة وتضمن الشفافية والمنافسة العادلة في القطاع.
اختبار جديّة… ومفترق طرق
ما جرى ليس مجرد اجتماع تقني. هو إعلان عن نوايا جديدة في التعامل مع ملف الطاقة الشمسية، ومحاولة لكسر حلقة الجمود التي عطلت مشاريع واعدة لسنوات. ولكنّ المسار لا يزال طويلاً ومحفوفاً بالتحديات: من غياب التمويل، إلى تعقيدات الإجراءات، وضعف البنية التحتية، والفراغ المؤسساتي.
القرار بوضع مهلة نهائية هو نقطة تحوّل واختبار لمدى جدية الشركات كما للدولة. فإما أن ينتقل لبنان نحو مرحلة جديدة في إدارة ملف الطاقة تقوم على الشفافية والاستدامة، أو نبقى أسرى المنظومة القديمة التي عجزت عن تأمين النور لعقود طويلة.
وفي الحالتين، فإن المواطن اللبناني ينتظر، لا الكلمات… بل الكهرباء.