الإستثمار بخوف الناس أو بالشعور بالمظلومية يشكّل أحد الأسلحة "الفتّاكة" التي تلجأ إليها معظم الأطراف في الإنتخابات النيابية اللبنانية تعويضاً عن إخفاقاتها في خوضها وفق مشاريع سياسية واضحة المعالم لا تلوّن فيها أو ربط نزاع. كذلك، عوض أن تكون صناديق الاقتراع هي الفيصل في الفرز بين الموالاة والمعارضة في أعظم موقعة ديمقراطية، تفرض التحالفات الهجينة إيقاعها على رسم خارطة الأحجام وتوزيع القوى بينهما. ما كان يسهّل ذلك ويخفف من نفوره ديمقراطياً هو إعتماد حكومات مصغّرة إلى حدّ كبير عن مجلس النواب.
اليوم، تشكيل الرئيس نواف سلام لحكومته كسر هذه "القاعدة الشواذ" إذ كتل عدة أكبرها تكتل "لبنان القوي" التابع لـ "التيار الوطني الحر" خارج الحكومة. ما دفع الأخير إلى إعلان إنتقاله إلى صفوف المعارضة. لكن السؤال الجوهري، هل يذهب "التيار" الى الآخر في معارضته أم يستمر القديم على قدمه في تبرير تحالفه مع قوى موالية في الانتخابات النيابية المقبلة تحت ذريعة أن الأمر تحالف إنتخابي وليس تحالفاً سياسياً؟
عملياً، رئيس "التيار" النائب جبران باسيل محترف في نسج هكذا تحالفات. فهو وصف رئيس "حركة أمل" الرئيس نبيه بري بـ"البلطجي"، ثم تحالف معه! خصّص كتاباً بإسم "الإبراء المستحيل" لتوصيف فساد "تيار المستقبل" كما زعم، ثم تحالف معه! عاب على رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع قوله إنْ منح الشعب المصري أصواته لـ"الإخوان المسلمين" فليحكم "الإخوان" إحتراماً لنتائج صناديق الاقتراع، فيما تحالف "التيار" و"الجماعة الاسلامية" أي النسخة اللبنانية من "الإخوان" في دائرة صيدا-جزين مثلاً!!!
يكفي التذكير بنظرية "القطار والفواغين" التي أطلقها باسيل في 9 نيسان 2022 بقوله: "بس هلّق رح قول ثوابت ما بتتغيّر: الحاصل الانتخابي هو القطار يلّي بدّو يوصّلنا على المجلس. والصوت التفضيلي هو البطاقة يلّي بتحدّد مقاعدنا. بهالقطار في 15 فاغونة، ونحن موجودين بـ 14 منها، بطريقة أو بثانية. ببعضها موجودين بنفس الفاغونة مع أفرقاء عنّا خلافات جذرية معهم، بس كل واحد منا قاعد على جهة من القطار، وكل واحد عنده شبّاكه ومنظره المختلف، ناسنا رح يصوّتوا لنا وناسهم رح يصّوتوا لهم، ولمّا نوصل على المحطّة كلّ واحد منا يروح على وجهته وتكتّله".
فهل تصلح هذه النظرية الآن في ظل المتغيرات التي دخلت على المشهد في لبنان والمنطقة وعهد الرئيس جوزاف عون وحكومته الاولى برئاسة القاضي نواف سلام التي كسرت الصورة النمطية للحكومة بعدما اعتدنا عليها أن تكون "mini برلمان"؟
باسيل، وخلال إحياء "التيار" ذكرى "حرب التحرير" في 16/3/2025، أكّد: "بكل استحقاق انتخابي نيابي العنوان هو يخلصوا من التيار الوطني الحرّ – هيك كان بالـ 2005 وانتصرنا، وهيك كان بالـ 2009 وانتصرنا وهيك بالـ 2018 وانتصرنا وهيك بالـ 2022 وانتصرنا، وهيك رح يكون بالـ 2026 ورح ننتصر!".
صحيح حقق "التيار" برئاسة الجنرال عون الآتي من المنفى إنتصاراً غير مسبوق عام 2005 وصف بـ "التسونامي" حاصداً 22 مقعداً (بينهم مقعد حصده في انتخابات المتن الفرعية عقب اغتيال النائب بيار الجميل) بحيث كاد يلامس 70% من أصوات المسيحيين وتحالفات شبه معدومة.
الإستثمار بخوف الناس أو بالشعور بالمظلومية يشكّل أحد الأسلحة "الفتّاكة" التي تلجأ إليها معظم الأطراف في الإنتخابات النيابية اللبنانية
لكن انتصاره عام 2009 بحصد 27 مقعداً نيابياً أي زيادة خمسة مقاعد عن دورة 2005 شابته علامات استفهام إذ المفارقة كانت تراجع الأصوات التي حصدها خصوصاً مسيحياً من جهة وتعويله أكثر على التحالفات من جهة أخرى. فضم التكتل "المردة" و"الطاشناق" وطلال ارسلان والراحل ميشال المر، ما يعني عملياً أنه حافظ على حجمه تقريباً.
أما عام 2018، ومع الاستفادة من إنطلاقة عهد العماد ميشال عون، فحصد تكتلاً من 29 نائباً بمن فيهم نواب "الطاشناق" الثلاثة وأرسلان ولكن لاحقاً خسر 6 نواب إما استقالوا أو طردوا هم: إيلي الفرزلي، ميشال معوض، نعمة افرام، ميشال ضاهر، شامل روكز، حكمت ديب. أي عملياً، إمتلك تكتلاً من 19 نائباً.
في إنتخابات 2022، إدعى باسيل أن التكتل يضم 21 نائباً من ضمنهم نواب "الطاشناق" الثلاثة والنائب العكاري محمد يحيى الذي لم يدخل الى التكتل ليخرج منه و"الطاشناق" الذي كعادته في اللحظات المفصلية قراره ليس في الرابية. ثم كان الإنشقاق الكبير بخروج النواب: إلياس بو صعب، إبراهيم كنعان، الآن عون وسيمون أبي رميا. فها هو التكتل اليوم يضم 13 نائباً فقط لا غير. لذا في قراءة للخط البياني لانتصارات "التيار" في الاستحقاقات النيابية منذ العام 2005 صدق المثل القائل "المي بتكذب الغطاس".
باسيل وبالتوازي مع حديثه عن انتصار حتمي في إنتخابات 2026، يمهّد لتعظم الاضطهاد بحق تياره قائلاً: "كل مرّة بالانتخابات النيابية بتكون حرب كونية علينا، بس هالمرّة رح تكون حرب نوويّة، وفينا ننتصر فيها اذا كنّا "بولاد" ما بيتأذّى بالنووي...".
عملياً، تبقى عين باسيل في التحالفات الوازنة على "حزب الله" أولاً لأن مصير مقاعد بعض ما تبقى في كتلته من النواب الـ 13 مرتبط بهذا التحالف إذ لا حواصل لـ"التيار" في دوائرهم وفائض أصوات "الحزب" من عبّد الطريق لوصولهم الى ساحة النجمة مثل النواب: سليم عون، شربل مارون، سامر التوم وإدكار طرابلسي.
هل يعمد باسيل عشية الانتخابات النيابية الى إجراء قراءة لكل خياراته ويستخلص العبر اللازمة؟
في 8 حزيران 2009، عقب سقوطه للدورة الثانية في الانتخابات النيابية والتي أتت بعد الإنعطافة الكبيرة في الخيارات السياسية لـ"التيار" من إتفاق "مار مخايل" مع "حزب الله" الى زيارة العماد ميشال عون دمشق، خرج يومها باسيل معلناً: "قمنا بخيار سياسي لم يتبعه الناس ولم تفهم نتائجه، سوف يجري كل فريق قراءة لما يحصل ويستخلص العبر اللازمة منه. من الممكن أننا لم نعط العناية الكافية لمعالجة مخاوف الناس".
اليوم هذه الخيارات سقطت مع سقوط نظام الأسد وسقوط مضامين "اتفاق مار مخايل". وتبدّلت وضعية "الحزب" وتحّولت العلاقة معه الى تحالفات ومواقف "على القطعة". فيما خيار "التيار" بقطع الطريق على وصول العماد جوزاف الى بعبدا باء بالفشل وأضحى في موقع المعارض له. فهل يعمد باسيل عشية الانتخابات النيابية الى إجراء قراءة لكل خياراته ويستخلص العبر اللازمة أم يتمسك بالتعويل فقط على نظرية "القطار والفواغين" وعلى إدعاء المظلومية والتعرّض لـ"حرب نووية"؟!!