ليس على حدِّ علمي، ولا حتى على حدِّ علم أحد في لبنان والمهجر، وفي أربع جهات الأرض، أن نواب لبنان اختاروا في الاستشارات النيابية الملزمة لتسمية رئيس أول حكومة لبنانية في العهد الجديد، نائبة المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط السيدة مورغان أورتاغوس رئيسة حكومة للبنان.

السيدة اليهودية الأميركية التي خلفت يهوديًّا إسرائيليًّا أميركيًّا، هو أموس هوكستين، في منصبها الجديد، والتي تبدي سعادة قصوى بنفسها وهي تعرض صورها، ونجمة داود تتدلى بسلسال مذهَّب من عنقها على صدرها، وتضع تلك النجمة خاتمًا في بنصرها... لم ترعوِ عن التصريح العلني، بعد لقائها رئيس الجمهورية جوزاف عون في قصر بعبدا، أنها تأمل في أن ينتهي نفوذ حزب الله، الذي هزمته إسرائيل شاكرة لها فعلتها. وإلى الأمل المعلن هذا الذي لولاه يضيق العيش، أكّدت، لا فُضَّ فوها وفو من انتدبها وأرسلها، "عدم مشاركة الحزب في الحكومة اللبنانية الجديدة في أي شكل من الأشكال".

أكدت ولم تتمنَّ. وقالت كلمتها ومشت. وجزمت بأي شكل من الأشكال، لا مجرد رفض مطلق، وموعد الانسحاب الإسرائيلي المُمدَّد من الجنوب، على بعد 11 يومًا، والخروقات الإسرائيلية لم تتوقف لحظة، والتهديدات بمعاودة الحرب على الجنوب والبقاع لم تنقطع، متزامنة مع نية أميركية إسرائيلية بتهجير أهل غزة إلى الأردن ومصر، لجعل ذاك الشريط ريفييرا المتوسط، ومن يدري ربما، توطين الفلسطينيين حيث هم، وحصة لبنان منهم ليست بالقليلة.

بصرف النظر عن شكل أورتاغوس الجميل الذي كان مَحَطَّ تعليقات مُذ سُمِّيت خلفًا لهوكستين، لم يكن كلامها الذي لم يعلق عليه أي مصدر رسمي لبناني، على أنه انتهاك فاضح للسيادة اللبنانية، وتدخُّل سافر في شؤون لبنان الداخلية، إلَّا الجواب الشافي عن السؤال الكبير الذي طُرح عن السبب الرئيس الذي أدّى إلى تعثر ولادة الحكومة اللبنانية، ظهر الخميس الفائت.

كانت الحكومة العتيدة التي استُدعي الأمين العام لرئاسة مجلس الوزراء محمود مكية إلى قصر بعبدا، تمهيدًا لتلاوة مراسيمها، تقوم على تمثيل حزب الله بوزيرين، وحركة أمل بمثلهما، لأحدهما وزارة المال، وقد سمى الثنائي الوزراء الأربعة. ولكن أين كمنت العقدة، وسرت التعليمة كالنار في الهشيم الإعلامي؟ كمنت في المقعد الشيعي الخامس، الذي قيل إن رئيس المجلس النيابي نبيه بري اتفق والرئيس عون عليه، قبل أن يرفضه الرئيس المكلف نوّاف سلام، ليفرض غيره.

كان الوزير الخامس هذا القشة التي قصمت ظهر البعير. لأن تسميته كشفت الغياب التام للمعايير المعتمدة في التأليف لدى الرئيس سلام الذي حصر تمثيل طائفته به، ورفض تمثيل أحزاب أو سياسيين سابقين، فإذا به يأتي باثنين منهم، من حصته أيضًا، ونزل عند رغبة وليد بك جنبلاط بتسمية وزيرين له، وسمّى عن القوات اللبنانية وزراءها، وكافأ كتلًا صغيرة بالتوزير، وحرم أخرى إياها، واستبعد التيار الوطني الحر حين رفض التيار أن يعامله الرئيس المكلف بأقل من حجمه، فلم يمثله إلا بوزارتين هامشيتين.

فهل صحيح أن ما كشفته السيدة أورتاغوس علنًا أمس، هو "التسريبة" التي بلغت إلى مسامع المعنيين في لبنان، فأجهضت الحكومة، لا عقدة الوزير الشيعي الخامس التي كانت شمّاعة تلطّت خلفها وسائل إعلام كثيرة، لتنحى باللائمة في التعطيل على الثنائي؟

فهل يتدارك الرئيس سلام خطأه، فيعيد النظر في معاييره؟ أم أن موقف أورتاغوس هو خارطة الطريق التي ينبغي له سلوكها، مكره أخوك لا بطل؟

لنتصور حكومة بلا حزب الله. لن تشارك فيها حركة أمل كما نُقِل عنها. فتضم ساعتذاك وزراء شيعة من خارج الثنائي. يكمل الرئيس سلام توليفته. يناقشها مع رئيس الجمهورية. تصدر مراسيمها وأمرها لله. تمثل أمام المجلس النيابي، فيحجب عنها الثقة النواب الشيعة الـ27 جميعًا (وآخرون طبعًا). وإذا عُدَّت الثقة الناقصة الصوت الشيعي، ثقة، ولم تُمس الميثاقية، وقرر الثنائي أن يستقيل نوابه من المجلس النيابي، فكيف ستكون الحال، في ضوء ذلك؟ هل تجري الحكومة انتخابات فرعية لملء الشواغر؟ وماذا إذا عاود الثنائي اكتساح المقاعد الـ27؟ وإذا لم يُملأ فراغهم، كيف تعمل حكومة عهد جديد أمامها تحديات كبرى، من تطبيق القرار الرقم 1701، إلى إعمار الجنوب، إلى وضع أسس لحل الأزمة الاقتصادية المالية، إلى إجراء التعيينات الإدارية والعسكرية والأمنية والقضائية، إلى إجراء الانتخابات البلدية في أيار المقبل، ومن ثم الانتخابات النيابية في أيار 2026؟

هل بين اللبنانيين من يتحمّل، في أي موقع كان، إلغاء طائفة عن بكرة أبيها من الحياة السياسية، إرضاء للسيدة اليهودية الأميركية، بما وبمن تمثل؟ وهل يمكن القيام بخطوات تعارض الرغبات الأميركية التي هي بمنزلة الأوامر، وسط مشهد سياسي تديره واشنطن منذ أكثر من سنة ونصف السنة على مزاجها، ووفق مصالحها، وخدمة لإسرائيل؟

يعترف كثر من كبار أهل السياسة في لبنان بأهمية الولايات المتحدة الأميركية في العالم، خصوصًا في الزمن الراهن، إذ تبدو حاكمة مطلقة. ففي معاداتها على ما كان يقول الرئيس كميل شمعون صعوبة، وفي صداقتها مذلة.

وبين الصعوبة الشديدة والمذلة، ماذا يختار الرئيس سلام الذي خبر سياسة الولايات المتحدة الأميركية عن كثب وقرب، وخبر ردود فعلها على قراره القضائي في حق إسرائيل زمن ترأس محكمة العدل الدولية؟

هل يظن أنه الحبيب الذي عرف مكانه لدى الأميركيين، فقرر أن يتدلل؟ أم أنه سيعيد مراجعة حساباته، بعد أن يرى أبناء طائفته أين سيميلون في 14 شباط، في الذكرى العشرين لاغتيال الرئيس رفيق الحريري، وأبناء الطائفة التي يُعمل على إلغائها كيف سيتصرّفون يوم تشييع السيد حسن نصرالله في 23 شباط، وأبناء الذين تربّوا على مبدأ "يستطيع العالم أن يسحقني لكنه لن يأخذ توقيعي" كيف سيجعلون شعلة 14 آذار تتوهّج؟

ويا ليت الرئيس سلام يتذكر ما واجه به الرئيس العماد ميشال عون الذي كان عائدًا لتوه من الإبعاد إلى فرنسا، وفائزًا بأكبر كتلة نيابية عام 2005، رئيس الحكومة المكلف آنذاك فؤاد السنيورة الذي لم يعْنِه انتصار التيار الوطني الحر يومذاك، فاستبعده من حكومته. قال الرئيس عون للرئيس السنيورة: لن تستطيع أن تحكم من دوننا. نحن الممر الإجباري لمن يريد أن يحكم.