ليس مصادفة أو استنساخًا أن يشكو جميع رؤساء الجمهورية، منذ التعديلات على الدستور، عملًا بمقتضيات اتفاق الطائف عام 1989، من ثغر كثرة، اكتشفوها بالممارسة، تعطِّل آلية الحكم في لبنان.
أوَّل الرؤساء الياس الهراوي الذي شارك في اجتماعات الطائف، وكان الثمرة الثانية لإقراره، بعد اغتيال الرئيس رينيه معوض. وما بالك بالرؤساء الذين أعقبوه، سواء إميل لحود أو ميشال سليمان أو ميشال عون؟ وحتى الرئيس الجديد جوزاف عون ألمح في خطاب القسم إلى ضرورة تطوير اتفاق الطائف لتصطلح عجلة الدولة وتسير على أربعة إطارات.
أما من أبرز الثغر التي أنتجت ثلاثة فراغات رئاسية، منذ العام 1989، أن رئيس الحكومة المكلف ليس محدَّدًا بمهلة لتأليفها، ولو استمر سنة يحاول أن يؤلِّف، كما حدث مع الرئيس تمام سلام، وأن الحكومات التوافقية التي اعتمدت منذ اتفاق الدوحة عام 2008، جعلت أيَّ مجلس وزراء مجلسًا نيابيًّا مصغَّرًا، فيه الخصام وهو الخصم والحكم... وإيَّاك ثم إيَّاك أن تبخس حقَّ أي من مكوِّنات الحكومة أو أيٍّ من الطوائف أو المذاهب، فهناك الويل والثبور وعظائم الأمور.
مناسبة الكلام تأليف الحكومة الذي كان مؤملًا ألَّا يستغرق وقتًا مع الرئيس المكلف الدكتور نواف سلام، وإذ به يصادف عراقيل ومطبَّات، تقلل الاندفاعة الصاروخية التي وسمت عهد الرئيس عون، وأشاعت جوًّا عارمًا من التفاؤل ظلت تعززه زيارات رؤساء الدول ورؤساء حكوماتها ووزراء خارجيتها، ناهيك بكبار المسؤولين الأمميين، مرفقة بوعود بالمساعدة والإعمار والاستثمار.
كانت السرعة لافتة في أداء الرئيس عون حين أجرى استشارات نيابية، ملزمة، في يوم واحد، أفضت إلى تكليف الرئيس سلام تأليف حكومة العهد الأولى. أجرى الرئيس سلام، من فوره، استشاراته النيابية، غير المُلزمة، طوال يومين، واستكملها، بعد مقاطعة ثنائي "أمل" – "حزب الله" إياها، بلقائه رئيس المجلس النيابي نبيه بري، وطيّ صفحة "نكث" الاتفاق الذي كان سيأتي بالرئيس نجيب ميقاتي رئيسًا للحكومة، لا بنواف سلام.
راح الرئيس سلام يختلي بنفسه وبضميره، بالتشاور مع رئيس الجمهورية، مجوجلًا أفكار الكتل النيابية والنواب واقتراحاتهم، وآخذًا في الحسبان ترجمة الدينامية الجديدة التي تطبع عادة بداية كلِّ عهد، ومحاولًا ترجمة تصوُّره للحكم، بعيدًا من مطالب معظم الأفرقاء، وقد جرت العادة، على كثرتها، أن تؤخِّر تأليف الحكومة أشهرًا.
صحيح أن الرئيس سلام ما زال ضمن المهلة المعقولة لتأليف الحكومة، يسرع لكنه لا يتسرَّع، ويحدِّد تصوُّراته غير المبنية على مطالب الكتل والنواب أو المتأثرة بها، لكن المضمر في التأليف أنَّ الجهر بنيَّة بناء الدولة لدى كثرٍ، يناقض حقيقة ما يخفيه هؤلاء المطالبون، لأنَّ عقلية القبيلة والعشيرة والطائفة والمنطقة هي السائدة، وهي عقلية مطامع يُستفاد منها للخدمات الشخصية الخاصة، لا للخدمة العامة، خصوصًا عشية كل انتخابات نيابية.
وهذه هي حال حكومة الرئيس سلام التي، إذا تألفت اليوم، فلن تعيش أكثر من سنة وأربعة أشهر. وعليه تكون، إلى مهمتها في إعادة هيكلة وضع الدولة والمؤسسات وإجراء التعيينات ومعالجة الأزمات الكثيرة وورشة إعمار الجنوب والبقاع والضاحية، حكومة انتخابات نيابية ستجرى في أيار 2026.
فإذا لم يتجاوب الرئيس سلام مع مطالب جميع الكتل بتمثيلها في الحكومة، لأن الانتخابات على الأبواب، وإذا اعتمد بالتالي تشكيلة حكومية مستقلة عن تلك الكتل، فهل يضمن أن ينال الثقة؟ فهل يعتذر ساعتذاك؟ وهل يرضى، بالتالي، أن يعاد تكليفه؟ وأي شخصية ستحل محله في حال كهذه؟ وماذا عن الأمل المعلق على العهد الجديد؟ وما موقف الأصدقاء والأشقاء الأوصياء على لبنان؟
ففي تاريخ لبنان الحديث، وما قبل الاستقلال وبعده وصولًا إلى العام 1975، سنة اندلاع الحرب فيه، هناك القبائل العشائر الطوائف التي تقاسمت السلطة والجاه والنفوذ، وإن في أشكال متفاوتة، فغلبت عصبية كل منها على مفهوم بناء الدولة، من دون إغفال عهد الرئيس فؤاد شهاب الذي تميز بمحاولة استيعاب النزعات العشائرية، وبوضع أسس لدولة حديثة.
وخلال الحرب، وصولًا إلى العام 1990، تاريخ ما سمي السلم الأهلي، قامت قبائل الميليشيات وعشائرها وعصبياتها، فحذت الحذو نفسه في السيطرة على مفاصل السلطة، والقبض على المال، وفرز طبقة سياسية وحزبية واجتماعية جديدة، حلَّت، في شكل كبير، محل تلك الطبقة التي ألِفها اللبنانيون، من دون أن تلغيها عن آخرها.
وخلال عهود ما سُمِّي الجمهورية الثانية المنبثقة من اتفاق الطائف، نشأت قبائل الطائف المحلية وعشائره وعصبياته، التابعة للقبائل الأم في الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية وسوريا، وما بينها من دول رعت ذاك الاتفاق أو أيدته، من ضمن توازن بقيت عصاه في يد واشنطن، فقادت أوركسترا المحليين ووزعت عليهم الأدوار والمناصب والمغانم والنفوذ والجاه والمال، فأفرز طبقة سياسية واجتماعية جديدة، جديدُها الإقطاع المالي الذي انضم إلى الإقطاعين السياسي والديني، مطعَّمة ببقايا قبائل ما قبل الحرب، ومجمل قبائل الميليشيات خلالها.
وما بالك بقبائل المطبِّلين لكلّ محتلّ أو وصيّ أو منتدب أو مستعمر، وعشائرهم وعصبياتهم، هؤلاء المنتفعين المتلونين الطفيليين الفاقدين أيَّ حسّ وطني وأي قيمة إنسانية وأي فضيلة أخلاقية؟ لا يكلفهم الأمر سوى تغيير اتجاه، أو على ما يقال بالعامية "قلب الجاكيت"، أو على ما يقال، بالفصحى، "نقل البندقية من كتف إلى كتف".
ومذ خلا لبنان، عام 2005، من الجيوش الغريبة على أرضه، من دون إدراج قوات الطوارئ الدولية في الجنوب في عدادها، وإن عاد الاحتلال الإسرائيلي لبعض الجنوب، والمؤمل أن ينتهي غدًا الأحد عملًا باتفاق وقف النار... مذذاك اختلط حابل القبائل والعشائر والعصبيات بنابلها، حتى كان ما يسمى الربيع العربي فانضمت إليها جهارًا قبائل وعشائر وعصبيات تلطَّت بالأديان، علمًا أنها كانت تعمل وتنشط وتنتشر إما في شكل محدود، وإما سرًّا، فجمعها التعصب والتكفير ورفض حق الاختلاف والتقوقع والانعزال، وتخطّي كل اللياقات في التخاطب والخطاب والفعل والمقاربة.
... حبل القبائل والعشائر والعصبيات، على الجرَّار. وتبًّا لنا أننا ما زلنا قبائل وعشائر تتحكم بنا العصبية بمختلف وجوهها العرقي والعائلي والديني والمذهبي والاجتماعي والمناطقي والمصلحي والمالي، ونتلطى خلف خيال إصبعنا لنخفي حقيقة أننا كمثل الخطين المتوازيين اللَّذين لا يمكن أن يلتقيا أو يتَّحدا... فندَّعي أننا نريد بناء دولة.
ثمة حل بسيط لبناء الدولة. لنعد إلى الصيغة التي كانت معتمدة في ما مضى، زمن الكتلة الدستورية والكتلة الوطنية. كانت كلٌّ منهما تضم أفرقاء من كلِّ الطوائف والمذاهب والمناطق. فما المانع من أن تنضوي القوى السياسية اليوم تحت لواء كتلتين كبيرتين تتنافسان، وفق قانون نسبي، فتأتي من تفوز من بينهما، برئيس جمهورية ورئيس حكمة ورئيس مجلس نيابي، وتحكم وتتحمل المسؤولية كاملة، في مقابل الكتلة الأخرى التي تقود المعارضة. ولتسقط حكومات التوافق والمحاصصات والتسويات. وليسقط منطق القبيلة والعشيرة والطائفة والمذهب والمنطقة.
وإلى ذلك الحين، وباسم الجمهوريات القبلية اللبنانية غير المتحدة، تصبحون على قبيلة.