تُعد الجيوسياسية واحدة من أكثر الحقول تعقيدًا في العلوم السياسية، إذ يتشابك فيها التاريخ والجغرافيا مع السياسة لتشكيل قرارات الدول واستراتيجياتها.

تعتمد الاستراتيجية السياسية في الجيوسياسية العالمية على عوامل متعددة، منها الموقع الجغرافي والموارد الطبيعية والقوة العسكرية والاعتبارات الثقافية والاقتصادية، فهي باختصار: عِلم وتحليل التأثيرات الجغرافية على العلاقات الدولية وتحديد موازين القوى بينها.

فالجيوسياسية هي دراسة تأثير الجغرافيا على السياسة الدولية، وهي تساعد الدول على فهم كيفية توظيف موقعها الجغرافي لتحقيق أهدافها الاستراتيجية. يشمل هذا المفهوم تحليل العوامل الجغرافية مثل الحدود الطبيعية والمناخ والمسافات بين الدول، إلى جانب الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية التي تؤثر على العلاقات الدولية. ففي السياق العالمي، تلعب الجيوسياسية دورًا حاسمًا في تشكيل التحالفات والنزاعات والقرارات المتعلقة بالأمن والتنمية.

عناصر الاستراتيجية السياسية في الجيوسياسية

الموقع الجغرافي:

أبرز عناصر الاستراتيجية السياسية في الجيوسياسية في صياغة الاستراتيجية السياسية هو الموقع الجغرافي. فالدول التي تقع على مفترق طرق تجارية أو بالقرب من موارد طبيعية غنية تتمتع حكماً بأهمية استراتيجية مميّزة.

على سبيل المثال، تُعّدّ تركيا دولة ذات موقع جغرافي مميّز يربط بين آسيا وأوروبا، وهو ما يمنحها دورًا حيويًا في السياسات الإقليمية والدولية. من ناحية أخرى، لا يمكن مقارنة تركيا أو شبيهاتها من الدول بالدول التي ليس لديها منافذ بحرية أو محاطة بأعداء، فهذه الدول تواجه حكماً تحدّيات جيوسياسية صعبة للغاية.

الموارد الطبيعية هي عنصر استراتيجي آخر مثل النفط والغاز والمعادن، يتحكّم في طبيعة العلاقات الدولية، وتُعد الدول التي تمتلك هذه الموارد من اللاعبين الأساسيين على الساحة الجيوسياسية.

فلنأخذ مثلاً، الدول الغنية بالنفط كدول الخليج العربي تستخدِم مواردَها لتعزيز قوتها الاقتصادية والسياسية، بينما تُعَدّ السيطرة على الموارد الطبيعية في القارة السوداء هدفًا للصراعات بين القوى الكبرى، وفي جميع الأحوال فإن التنافس على الموارد الطبيعية يمتدّ أيضًا إلى المحيطات وحتى إلى القطب الشمالي، حيث تسعى الدول الكبرى إلى استغلال الموارد البحرية الغنية جداً.

ظهور قوى إقليمية جديدة مثل الهند والبرازيل يؤدّي إلى تغيير ميزان القوى العالمي

القوة العسكرية هي عنصر استراتيجي آخر. فالقوى العظمى كالولايات المتحدة وقوى إقليمية أخرى تعتبر القوة العسكرية أداة رئيسية لتحقيق نفوذها الجيوسياسي، إذ إن غالبية الدول تسعى لتعزيز قوتها العسكرية لحماية مصالحها والتأثير في مناطق نفوذها، حيث يتمثل ذلك في الاعتماد على القواعد العسكرية الخارجية وفي سباق التسلح النووي والانتشار العسكري في المناطق الاستراتيجية، مثل بحر الصين الجنوبي الذي يحظى بأهمية كبيرة بسبب وقوعه في نقطة التقاء أكثر طرق المواصلات البحرية كثافة في العالم، إذ يمرّ عبره نحو 60 في المئة من التجارة الدولية والتي ستزداد مستقبلاً، بالإضافة الى وجود مقومات وإمكانات نفطية وغازية هائلة في أعماقه، ربما تؤهله ليكون رديفاً للخليج العربي.

زدّْ على ذلك أنّ الصناعات الدفاعية والتكنولوجيا العسكرية المتقدمة خصوصاُ في الولايات المتحدة تلعب دورًا متزايد الأهمية في تحقيق التفوق العسكري.

بيدَ أنّ الاقتصاد القوي هو الذي يمنح الدول العظمى القدرة على التأثير في القرارات الدولية، لأن الاستراتيجيات السياسية تستعمل العقوبات الاقتصادية من جهة، والمساعدات والاستثمارات من جهة أخرى لتحقيق أهدافها المرسومة.

فالولايات المتحدة كدولة عظمى مثلاً، تستعمل التجارة العالمية والمؤسسات الاقتصادية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي كوسائل لتحقيق أهدافها الجيوسياسية، بالإضافة الى انها تستعمل العقوبات أداةَ ضغطٍ على دول مثل إيران وكوريا الشمالية وغيرها، بينما تعتمد الصين على الاستثمار في الدول النامية لتعزيز نفوذها.

أما العنصر الذي عادة ما يكون منسيّاً، فهو العنصر الثقافي الذي يشكل مع الدبلوماسية العامة والرقمية مزيجاً فعالاً لنشر الأفكار وتوجيه الرأي العام الدولي وتعزيز النفوذ الجيوسياسي، إذ إن بعض الدول تعتمد على الثقافة الناعمة مثل الأفلام والموسيقى والتعليم لتعزيز صورتها عالميًا.

استراتيجيات القوى الكبرى

نبدأ بالولايات المتحدة التي تعتمد على استراتيجيات الاحتواء والتحالفات العسكرية مثل حلف الناتو لتعزيز نفوذها، وهي تسعى للسيطرة على الممرات البحرية الحيوية مثل مضيق هرمز وقناة بنما. وهي أيضاً تستثمر في الابتكار التكنولوجي لضمان تفوقها في مجالات الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني، وهذا ما جعلها الدولة التي سبقت الدول المتقدمة على الأقل بجيلين في هذا المجال، وقد لامست فيه الجيل السابع.

تأتي الصين في المرتبة الثانية وهي تسعى إلى توسيع نفوذها من خلال مبادرة "الحزام والطريق"، التي تربط آسيا بأفريقيا وأوروبا عبر شبكة من المشاريع الاقتصادية والبنية التحتية.

وهي أيضاً تعمل على تعزيز وجودها العسكري في بحر الصين الجنوبي وبناء تحالفات مع الدول النامية، وتستثمر بشكل كبير في التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي محاولةً منها للّحاق بالولايات المتحدة.

أما روسيا فتعتمد على قوتها العسكرية باعتبارها لا تزال بعيدة عن التكنولوجيا الأميركية، لكنها تعتمد أساساً على مواردها من الطاقة لتأكيد نفوذها، خصوصاً في المناطق المحيطة بها مثل أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى. وهي تسعى أيضاً للتأثير في السياسة الدولية من خلال تحالفات استراتيجية مثل منظمة شنغهاي للتعاون، وهي منظمة دولية سياسية واقتصادية وأمنية أوراسية، تأسست عام 2001 على يد ستة دول هي روسيا والصين وطاجيكستان وأوزبكستان وكازاخستان وقيرغيزستان.

التحديات المستقبلية

ثمّة تحدّيات أساسية أهمّها التغير المناخي الذي يؤدي إلى صراعات جديدة حول الموارد، مثل المياه والأراضي الصالحة للزراعة، إضافة إلى أنّ ارتفاع مستوى سطح البحر يهدّد الدول الجزرية والمناطق الساحلية، وهو ما يخلق أزمات إنسانية وسياسية جديدة تعتبر من التحديات التي يصعب معالجتها. ويبقى الحلّ لهذا الموضوع هو التعاون الدولي خصوصاً في مجال الطاقة المتجددة الذي يمكن أن يعيد تشكيل التوازن الجيوسياسي.

ومن التحديات المعقدّة، الأمن السيبراني، الذي يشكل ساحة جديدة للصراع الجيوسياسي بين الدول التي تستثمر في تطوير قدراتها السيبرانية للدفاع والهجوم، لا سيّما الهجمات على البنية التحتية الحيوية مثل شبكات الكهرباء والمصارف. هذه الأساليب أصبحت أدوات الحرب غير التقليدية.

أما التحدّي الجديد فهو صعود الأقطاب المتعدّدة. فظهور قوى إقليمية جديدة مثل الهند والبرازيل يؤدّي إلى تغيير ميزان القوى العالمي، هذه القوى تسعى لتحقيق توازن بين التعاون مع القوى الكبرى وتعزيز استقلالها، وهذا سيؤدي إلى تعقيد المشهد الجيوسياسي وزيادة الحاجة إلى آليات دبلوماسية جديدة.

لذلك يصبح فهم الجغرافيا ضروريًا لصنّاع القرار وضروريّا بالمقدار نفسه للمجتمعات التي تتأثر بقراراتهم، ومع استمرار التقلّبات والتطورات، سيظل الابتكار في الاستراتيجيات السياسية ضرورة ملحّة لضمان تحقيق الأمن والاستقرار العالميين.