من البديهي القول إن لبنان لن يكون قادرًا على الخروج من الأزمة التي يتخبّط فيها من دون مساعدات خارجية. ومن المعلوم أيضًا أنّ هذه المساعدات لن تُبصر النّور ما دام اللبنانيون لم يحققوا شرطين وضعهما المُجتمع الدولي، الأول سياسي وينصّ على عزل لبنان عن الصراعات الإقليمية، والثاني اقتصادي وينصّ على القيام بإصلاحات اقتصادية وإدارية وقضائية تفتح الباب أمام النهوض الاقتصادي. في هذه العجالة،، ضوء على نوع المُساعدات التي يُمكن المُجتمع الدولي تقديمها إلى لبنان وما قد يجنيه لبنان من هذه المُساعدات.
المساعدات الدولية للبنان
يمكن المُجتمع الدولي تقديم مساعدات شاملة من الدعم الاقتصادي إلى لبنان بدءًا من تلبية الحاجات الإنسانية العاجلة، وصولًا إلى دعم الإصلاحات الهيكلية الطويلة الأجل، مرورًا بتحقيق الاستقرار الاقتصادي والمالي والنقدي والاجتماعي. بالطبع عندما نتحدّث عن المُجتمع الدولي، نقصد بذلك، الولايات المُتحدة الأميركية، وفرنسا، وبريطانيا، والمملكة العربية والسعودية، والإمارات العربية المُتحدة، ودولة قطر، ودولة الكويت... وغيرها من الدول التي يشهد تاريخها على مساعدتها للبنان:
أولًا – المساعدات الإنسانية المباشرة التي تشمل مساعدات غذائية وطبية يحتاج إليها لبنان في جنون العاصفة الحالية التي دمّرت هياكل المُجتمع اللبناني من بشر وحجر. وهذه المُساعدات يُمكن أن تشمل أيضًا النازحين السوريين الذي يُشكّلون عبئًا على موارد لبنان الاقتصادية.
ثانيًا – مساعدات لإعادة الإعمار وللطاقة: من الواضح أنّ أرقام الخسائر المباشرة –أي التدمير في البنى التحتية والأملاك الخاصة والعامّة – تخطّت الخمسة مليارات دولار أميركي. وهنا يُمكن المُجتمع الدولي تقديم مُساعدات مالية تشمل تمويل إعادة إعمار ما دمّرته الحرب من منازل وطرق وجسور ومرافق عامّة (محطات ضخ المياه، محطات للاتصالات...)، وتشمل أيضًا إمدادات الطاقة مثل جر الغاز من مصر والكهرباء من الأردن.
ثالثًا – الاستثمار في قطاعات أساسية وجوهرية للبنان واللبنانيين، وعلى رأسها قطاع الكهرباء، إذ يُمكن تلزيم شركات دولية هذا العمل مع التركيز على الطاقة المُتجدّدة ودعم مشاريع استثمارية لتحويل النفايات إلى الطاقة، وذلك لتخفيف أعباء الاستيراد الناتجة من استيراد الفيول، واستطرادًا إصلاح الميزان التجاري. كذلك يُمكن المُساعدات أن تشمل إدارة قطاع المياه من خلال تمويل استثمارات في البنية التحتية للمياه ومياه الصرف الصحّي.
الأزمة التي عصفت بلبنان من بابه الاقتصادي والنقدي، ضربت قطاعي التعليم والصحّة. من هنا يجب الاستثمار في مشاريع تشمل أنظمة التعليم والصحة وذلك خدمة للإنسان وحقوقه في الوصول إلى هذه الخدمات المنصوص عليها في شرعة حقوق الإنسان.
رابعًا – مساعدات مالية تشمل بالدرجة الأولى تمويل عجز الموازنة من خلال منح قروض بأسعار فائدة مُتدنّية مرتبطة بأجندة إصلاحية لتحقيق الاستقرار المالي والوصول إلى عجز صفر حقيقي في الموازنة وليس وهميًا، وتسهيل المفاوضات مع الدائنين (خصوصًا الأجانب منهم) لإنجاح عملية إعادة هيكلة الديون، واستطرادًا إعادة لبنان إلى النظام المالي العالمي واستيلاد صندوق استثماري بهدف دعم الليرة اللبنانية يكون مشروطًا بإصلاحات مذكورة في البند التالي. كذلك ينبغي الضغط على صندوق النقد الدولي من أجل تسهيل المفاوضات مع لبنان والحصول على برنامج دعم مرتبط بإصلاحات.
خامسًا – مساعدات تقنية تشمل إصلاحات في النظام المالي اللبناني وإصلاحات داخل المصرف المركزي من خلال توفير الخبرات والتمويل لإعادة هيكلة المؤسسات المالية الأساسية في النظام المالي اللبناني، وتعزيز الشفافية، وتقوية الأطر التنظيمية والرقابية. كذلك يُمكن أن يشمل الدعم الإصلاحات في القطاع العام من خلال تقديم المشورة والتدريب لمكافحة الفساد وتحسين الكفاءة وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة والتوجّه نحو الحكومة الإلكترونية.
سادسًا – مساعدات مالية وتقنية تشمل مُكافحة الفساد في القطاعين العام والخاص من خلال تمويل برامج لتعزيز المساءلة، وتأمين استقلالية القضاء، ودعم هيئات مُكافحة الفساد وتقويتها.
سابعًا – دعم القطاع الخاص من طريق تمويل الشركات الصغيرة والمتوسطة. وهذا يُمكن أن يمرّ من خلال إنشاء إطار مؤسساتي يسمح بإقراض المال وتقديم المشورة للشركات الصغيرة والمتوسطة التي تؤمّن نصف فرص العمل في السوق اللبنانية. كذلك يُمكن المُجتمع الدولي أن يُساعد القطاع الخاص من خلال فتح أسواقه للمنتوجات اللبنانية مع أفضلية محدودة في الزمن تسمح له (أي القطاع الخاص) بالنهوض السريع في فترة تراوح بين عامين وثلاثة أعوام. على صعيد آخر، ونظرًا إلى كفاءة الشباب اللبنانيين ومهاراتهم في مجال الاقتصاد الرقمي يُمكن إنشاء صندوق مُخصّص لدعم الشركات التقنية والرقمية وتأمين بنية ملائمة لهم سواء كانت تحتية (إنترنت...) أو إدارية (تسهيل القوانين والإجراءات الإدارية).
ثامنًا – دعم الجيش والقوى الأمنية بحكم الدور الأساسي للأمن في الاقتصاد. فليس هنالك اقتصاد من دون أمن، أضف إلى ذلك المخاطر الناجمة عن احتمال تمدّد أيّ انهيار أمني إلى الدول المجاورة بسبب النسيج الاجتماعي.
مساعدات مشروطة
على أن تكون هذه المساعدات الدولية مرتبطة بشروط إصلاحية يُشكل عدم تنفيذها بابًا لمساءلة المسؤولين. لهذه الشروط شقّان كما ورد أعلاه: الأول سياسي والثاني اقتصادي.
على الصعيد الاقتصادي، تُشكل مكافحة الفساد، وتعزيز الشفافية المالية، وإصلاح قطاع الكهرباء، واستقلالية القضاء جوهر الإصلاحات التي لطالما طالب بها المُجتمع الدولي. وتهدف هذه الإصلاحات إلى ضمان عدم إساءة استخدام المساعدات بسبب الفساد في القطاع العام. بالطبع هناك شقّ آخر من الإصلاحات الاقتصادية والمالية لا يقلّ شأنًا عن هذه الإصلاحات، إلّا أن تحقيقه مُرتبط بهذه الإصلاحات الجوهرية.
على الصعيد السياسي، هناك شروط سيفرضها المُجتمع الدولي على المسؤولين السياسيين، وعلى رأسها التقيّد بالإصلاحات تحت طائلة العقوبات.
لكن يبقى هناك تحدٍ كبير للمجتمع الدولي يتمثّل في تحقيق توازن بين المساعدات الاقتصادية والاعتبارات الجيوسياسية، وخصوصًا تأثير بعض الدول الإقليمية في الساحة السياسية اللبنانية.
نتائج مضمونة
نتائج المساعدات والإصلاحات هي مضمونة بحدّها الأدنى، إذ لم نقل أنّها قد تتخطّى كلّ التوقعات بحسب فرضيات تشمل طبيعة المساعدات، وسرعة الإصلاحات وفعاليتها، والظروف الاقتصادية العالمية والإقليمية.
هناك ثلاث فرضيات لتبسيط الفكرة: لا دعم ولا إصلاحات، دعم جزئي وإصلاحات محدودة، دعم كامل وإصلاحات شاملة. هذه الفرضيات تؤدّي إلى النتائج التالية.
الفرضية الأولى: لا دعم ولا إصلاحات. في هذه الحالة سيتراجع الناتج المحلّي الإجمالي نتيجة تأثير مخاطر الانكماش الاقتصادي، والتضخم المفرط، وانهيار العملة، والخدمات العامة، وهو ما يعني ناتجاً محلّياً إجمالياً أقلّ من 16 مليار دولار في السنوات الخمس الُمقبلة.
الفرضية الثانية: دعم جزئي وإصلاحات محدودة. في هذه الحالة سيشهد الاقتصاد نموًا سنويًا يراوح بين 2 و3% وقد يصل الناتج المحلّي الإجمالي إلى 26 مليار دولار في السنوات الخمس المُقبلة.
الفرضية الثالثة: دعم كامل وإصلاحات شاملة. وفي هذه الحالة سيكون الاقتصاد مع موعد نمو يتجاوز الـ 5% على مدى السنوات الخمس المُقبلة، وهو ما يعني ارتفاع الناتج المحلّي الإجمالي إلى 35 مليار دولار في أقلّ تقدير.
خارطة طريق
في حال تلقّي لبنان مساعدات دولية تشمل كل ما ذُكر أعلاه، يُمكن تقسيم خارطة الطريق ثلاث مراحل:
* المدى القصير الذي يُمكن تسميته مرحلة الاستقرار الاقتصادي، إذ يتمّ التركيز على التدابير الطارئة كاستقرار العملة، وإعادة هيكلة الدين العام والشق الاجتماعي.
* المدى المتوسّط الذي يُمكن تسميته مرحلة الانتعاش والنمو، إذ تبدأ ثمار الإصلاحات في الظهور. وهنا تعود ثقة المستثمرين وتزداد المساعدات والاستثمارات الخارجية.
* المدى البعيد الذي سيشهد ترجمة فعّالة للإصلاحات الهيكلية والاستقرار السياسي والحوكمة الرشيدة وذلك من خلال حجم استثمارات خارجية مباشرة من المُتوقّع أن يفوق مقدارها الـ 30% من الناتج المحلّي الإجمالي.
هذه الخارطة تحتاج إلى راعِ يقود السفينة خلال هذه المرحلة ويوصل لبنان واللبنانيين إلى برّ الأمان. فهل من يسمع؟