صباح كلّ 22 تشرين الثاني منذ العام 1943 نهنّئ أنفسنا، ونتبادل التهانئ بتحرّر لبنان من الانتداب، وفي الحلق غصّة، الاستقلال لم يكن يومًا منجزًا بمعناه الواسع. ما بالنا بالمعنى الضيّق في بقاء جزء من أرضه محتلًا فعلًا. فظلّ لبنان مُستعمرًا اقتصاديًا في معظم الحقبات، من سلطة الداخل قبل الخارج، ومرتهنًا ماليًا وطاقويًا ونقديًا. ولم يتمتع بمزايا السوق الحرة، رغم أنّ دستوره يكفل النظام الليبرالي. وعلى غرار كلّ أنظمة الاحتلال التي "تأكل البلدان لحمة وترميها عظمة"، فعل الاستيلاء على مقدرات البلد ومقوماته الطبيعية المصطنعة، والإنسانية فعله. فتحوّل لبنان إلى ولاّدة أزمات اقتصادية، قوّضت حتّى جميع إنجازات الاستقلال عن عقلية "الدولة المارقة" أو المتخلّفة، والعبور نحو الدولة الحديثة في حقبة الشهابية.

في عيده الـ 81 تلقّى لبنان هدية غير عادية: صُنّف في المرتبة 200 من أصل 213 دولة على "مؤشر الحوكمة والإدراة الرشيدة"، الذي يصدره البنك الدولي سنويًا. أما عربيًا فأتى التصنيف في المرتبة 16 من بين 20 دولة، ولم يتقدم لبنان إقليميًا في هذا المؤشر البالغ الأهمية، إلّا على ليبيا، سوريا، السودان، واليمن. وبيّنت النتائج أنّ 94 في المئة من البلدان كانت أفضل من لبنان في الحوكمة.

ماهية "الحوكمة الرشيدة"؟

تعرّف "الحوكمة الرشيدة" بأنّها العملية التي تدير بها الدولة الشؤون العامة والموارد، بطريقة تعزز سيادة القانون وإعمال حقوق الإنسان المدنية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية. ويربط هذا التعريف الحوكمة الرشيدة بالشفافية والمساءلة، ويجسد الشراكة بين الدولة والمجتمع وبين المواطنين. وقد دخل مصطلح "الحوكمة" قاموس التنمية منذ التسعينيات، واعتمدته المؤسسات الدولية، وفي مقدمتها صندوق النقد والبنك الدوليان، أداة أساسية لقياس تطور الحكم في الدول. وكلّما كانت علامات الدولة مرتفعة كانت متطورة ومستقلة اقتصاديًا، والعكس صحيح.

لإصدار النتائج، يقيّم البنك الدولي الأداء في 6 مجالات، هي: المساءلة، والاستقرار السياسي، وغياب العنف، وفعالية الحكومة، والجودة التنظيمية، وسيادة القانون والسيطرة على الفساد. وتوضع العلامات بناء على مقياس يراوح بين -2.5 (تشير إلى سوء الحكم)، و2.5 (تشير إلى حوكمة قوية). وتوضع البلدان ضمن مرتبة مئوية بين 0 (أدنى أداء) و100 (أعلى أداء) لكلّ فئة. وقد أتت علامات لبنان كالآتي:

المساءلة: النتيجة -0.65؛ المرتبة المئوية 30.88.

الاستقرار السياسي: النتيجة -1.52؛ المرتبة المئوية 9.48.

فعالية الحكومة: النتيجة -1.58؛ المرتبة المئوية 6.13.

الجودة التنظيمية: النتيجة -1.01؛ المرتبة المئوية 14.62.

سيادة القانون: النتيجة -1.17؛ المرتبة المئوية 13.21.

السيطرة على الفساد: النتيجة -1.23؛ المرتبة المئوية 10.85.

تقييم لبنان

اللافت أنّ النتائج للعام 2023 أتت أسوأ من تلك المحققة في العام 2022، بحسب التقييم نفسه، وهذا الأمر طبيعي بحسب عضو "جمعية مدراء مؤهلون" لمكافحة الفساد ران صوان. "ومن المرجح أن يستمر التراجع بالأداء ما دامت التغيرات الجوهرية لم تحدث على المستويين السياسي والاقتصادي". وبرأي صوان، فإنّ لبنان يعاني من أربعة عوامل أساسية تؤثر على تصنيفه، وهي:

- استمرار الفراغ السياسي يؤثّر على اتخاذ القرارات المهمة.

- الأزمات المالية والنقدية، من حيث انهيار الليرة اللبنانية وفقدان الثقة بالنظام المصرفي. هذا ما ينعكس سلباً على السياسات العامة.

- الفساد المستشري وضعف الرقابة والمساءلة يزيدان من التدهور.

- غياب الإصلاحات الأساسية. فلبنان لم يطبق إلى الآن الإصلاحات المطلوبة للحصول على الدعم الدولي. وخصوصًا من صندوق النقد الدولي.

- غياب هذه العوامل يؤدّي إلى تداعيات اقتصادية خطيرة برأي صوان، من أبرزها: الضعف في جذب الاستثمارات الأجنبية، وتعثر المساعدات الدولية. زيادة هجرة الكفاءات، إذ إنّ غياب الأمل بتحسّن الوضع يدفع الشباب وأصحاب المهارات إلى الهجرة، وهذا ما يضعف الاقتصاد. تعطيل القطاع الخاص بسبب ضعف سيادة القانون والجودة التنظيمية، يعرقل نمو الشركات، ويزيد من الكلفة التشغيلية. هذا عدا مخاطر تفشّي الاقتصاد النقدي الموازي، ففي ظلّ الغياب المستمر للمساءلة والقوانين الواضحة تتوسع الأنشطة الاقتصادية غير الرسمية، فيُضعف ذلك كله الإدارات الحكومية.

لكي لا نتحدّث عن المشكلات ليس غير، تقترح صوان 3 حلول أساسية يجب العمل عليها بسرعة كبيرة:

- الإصلاحات البنيوية الشاملة في القضاء والقطاع العام والسياسات المالية.

- تعزيز الشفافية والمساءلة ضمن إنشاء هيئات مستقلة للرقابة ومحاربة الفساد.

- استعادة الثقة عبر إجراءات جدية لضمان استقرار سياسي واقتصادي.

الحوكمة والتنمية

العلامات السيئة التي نالها لبنان اعتمدت على تصنيف مؤشرات سياسية اقتصادية يركن إليها البنك الدولي. وإنّما إذا أردنا أن نوسّع بيكار "الحوكمة الرشيدة" للمجالات التي يحددها "مكتب المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان"، وهي: الحقّ في الصحّة والسكن اللائق، والغذاء الكافي، والتعليم الجيد، والعدالة، والأمن الشخصي، فإنّ الأمور تصبح أسوأ. فبناء على التصنيف المرحلي المتكامل، هناك ما يقرب من مليون و176 ألف مقيم في لبنان يعانون من انعدام الأمن الغذائي. ومن أصل تعداد سكاني يصل إلى 5 ملايين و741 ألف نسمة، هناك فقط مليون و850 ألفاً يشكّلون 33 في المئة من السكان، لا يعانون من انعدام الأمن الغذائي. فيما البقية إمّا في مرحلة الأزمة وإمّا في مرحلة الإجهاد، وإمّا في المرحلة الحرجة. أمّا في ما يتعلّق بالأمن الشخصي فهو معدوم وقد بلغ عدد الضحايا جراء العدوان الاسرائيلي نحو 3500 شهيد، و15 ألف جريح. فيما تغيب الضمانات الصحية والاجتماعية وشبكة الحماية الاجتماعية عن معظم اللبنانيين، وهي إن وجدت تحوّلت إلى شكلية أكثر منها فعلية مع تراجع الموارد المالية للمؤسسات الضامنة.

من دون حوكمة رشيدة لن يكون هناك نمو أو تنمية. وفي غياب العنصرين الأخيرين، سيبقى لبنان مرهونًا للخارج سواء من خلال المساعدات أم النفط للكهرباء أم فرض الشروط... وهذا لا يعدّ استقلالًا، بل احتضارًا في عمر الطفولة على مقياس عمر البلدان.