من الآن إلى 20 كانون الثاني المقبل، موعد دخول الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض ينتظر أن تظهر طبيعة السياسات التي سيعتمدها سواء على المستوى الداخلي الأميركي أو على مستوى السياسة الخارجية، خصوصًا في ما يتعلّق بقضايا منطقة الشرق الأوسط والحروب الدائرة فيها.

غير أنّ أيّ رئيس أميركي جديد يُنتخب، جمهوريًا كان أم ديموقراطيًا، يكون عادة تقليديًا ملزمًا باعتناق السياسات التي ترسمها الدولة الأميركية العميقة، لكنّه يتمتّع أحيانًا بهامش من "الأخذ والرد" حيال قضايا لا تمسّ مباشرة المصالح الأميركية، أو يمكن البناء عليها لتحقيق مصالح جديدة لواشنطن من خلال الأحداث التي تدور حول العالم. غير أنّ مجيء ترامب هذه المرة إلى الرئاسة في ولاية هي الأخيرة له دستوريًا، ربما يكون متحرّرًا من الضغوط التي غالبًا ما تصاحب كلّ رئيس أميركي في ولايته الأولى وتلزمه بتقديم تنازلات، ليبني عليها للفوز بولاية رئاسية ثانية خصوصًا أنّ التقليد السّائد في الولايات المتحدة هو أنّ الرئيس الذي يخدم لولاية واحدة ولا يفوز بالثانية يعتبر رئيسًا فاشلًا.

لكنّ ترامب كسر القاعدة هذه المرّة إذ بعد فشله في الفوز بالولاية الثانية في وجه منافسه جو بايدن صمّم على العودة إلى البيت الأبيض لاحقًا، ففاز في الانتخابات الأخيرة متفوقًا على منافسته الديموقراطية كَمَلا هايس برغم الدّعم الهائل الذي وفّره لها بايدين، وكذلك منصبها كنائبة للرئيس الأميركي. ولذلك فقد يكون ترامب قادرًا على التحرّر من أيّ ضغوط يمكن أن تفرض عليه تنازلات لأنّها ولايته الرئاسية الأخيرة.

إلّا أنّ بعض العارفين يقولون إنّ ترامب لا يمكنه أن يتحرّر من جميع الضغوط، إذ عليه أن يساير في بعض المجالات، خصوصًا اللوبي الصهيوني، حتّى لا يُعطّل له قراراته في الكونغرس الأميركي، فالغالبية الجمهورية مسيطرة عليه والجمهوريون بطبيعتهم يدعمون إسرائيل بدليل استقبالهم الحاشد لنتنياهو في الكونغرس قبل أشهر والتصفيق الحاد له وقوفًا نحو 50 مرة.

ويقول خبير ديبلوماسي في السياسة الأميركية إنّ ترامب يأتي هذه المرة إلى البيت الأبيض قويًّا بتأييد غالبية الأصوات الشعبية وأصوات المندوبين وسيطرة شبه شاملة لحزبه الجمهوري على الكونغرس، فضلًا عن المحكمة العليا التي كان عيّن غالبية أعضائها أيام ولايته السابقة، ما يعني أنّ الرجل جاء إلى الرئاسة "حاكماً بأمره". وإنّ هذه القوة التي يتمتّع بها تؤهله للعب أدوار مهمّة ومؤثّرة داخليًّا وحول العالم إذا أراد. فهو ليس صهيونيًا كالرئيس الحالي بايدن الكاثوليكي الذي قال أربع مرات منذ عملية "طوفان الأقصى" إنّه صهيوني و"إنّ الصهيوني ليس بالضرورة أن يكون يهوديًا حتًى يكون صهيونيًا". وقال أيضًا "إذا لم تكن هناك إسرائيل يجب أن نوجد إسرائيل من أجل يهود العالم". لكن ترامب لا يمكن أن يقول إنّه صهيوني ولا أن يعيّن وزراء صهاينة في حكومته، وخصوصًا في وزارة الخارجية، فصحيح أنّ أعداءه وخصومه يقولون عنه إنّه ضدّ اليهود، ولكنّه في الواقع ليس ضدّهم، إلّا أنّه لن يقف يومًا ويقول إنّه صهيوني مثلما قال بايدن.

ويشير الخبير الديبلوماسي إلى أنّ ترامب مهما فعل فسيكون أفضل من بايدن بالنسبة إلى اللبنانين، وسيعيّن وزيرًا للخارجية غير صهيوني، وقد تعهّد في مطعم اللبناني حسن عباس في ميشيغن أنّه سيوقف العدوان الإسرائيلي على لبنان، ولكنّه إذا لم يف بهذا التعهد الذي كان خطّيًّا كما ذكر البعض الذين سمّوه "تعهد ميشيغن"، فسيصبح في نظر اللبنانيين وغيرهم مثل بايدن.

لكنّ الخبير نفسه يقول إنّه على الرغم من القوّة التي يتمتع بها ترامب في ولايته الثانية هذه والأخيرة، فقد يستطيع أن يكون متحرّرًا من أيّ ضغوط إسرائيلية مباشرة أو عبر اللوبي الإسرائيلي في واشنطن، لكنّه في مكان ما سيكون متساهلًا مع إسرائيل أو متماهيًا مع مواقفها لأنّ اللوبي الإسرائيلي ما زال مهيمنًا على النظام الأميركي، وبالتالي لا يستطيع ترامب أن يحصل على موافقات في الكونغرس على قضايا معينة يريدها ما لم يحصل على دعم ذلك اللوبي الذي يلزمه بدعم إسرائيل. ولكن مع ذلك ومن خلال التأييد الشعبي الكبير وعلى مستوى المندوبين والمستوى القضائي فإنّه قد يستطيع تجاوز أيّ معوقات وأن يكون قويًا ولا يحتاج إلى دعم أحد.

صفقة القرن

وعن احتمال عودة ترامب إلى العمل بـ"صفقة القرن" يقول الديبلوماسي إنّه سيعود حتمًا إلى استئناف هذه الصفقة، لأنّ التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل هو سياسته الأساسية مثلما كانت في ولاية السابقة. ولذلك سيستمر فيها مسايرًا في الوقت نفسه الفلسطينيين بحيث يعطيهم شيئًا يتمايز به عن بايدن، ويسير في دعم سعي إسرائيل إلى التطبيع مع السعودية وغيرها، ويأخذ في المقابل أثمانًا للفلسطينيين، لكن قد يكون من الصعب عليه أن يسير في صيغة "حلّ الدولتين" خصوصًا أنّ بعض أركان إدارة بايدن كانوا يتحدّثون عن اعتناقهم "حلّ الدولتين"، لكن من الواضح أنّ ترامب سيعوّل على دور سعودي مؤثّر في هذا الاتجاه بحيث تتمسّك المملكة العربية السعودية بـ"حلّ الدولتين" ‫كشرط لا رجوع عنه للقبول بالتطبيع مع إسرائيل. فترامب ليست لديه مبادئ اشتراكية أو رأسمالية، فمبدأه هو الصفقة، وهو رجل صفقات وليس صهيونيًا ملتزمًا مثل بايدن، لكنّ هذا الكلام لا يعني أنّه سيكون هناك تغيير في السياسة الأميركية، فقد يكون متساهلًا أكثر مع العرب ومتفهمًا لمواقفهم أكثر، ويمكن أن يصل معهم إلى صفقات بينما بايدن يقول العكس، ولو كان قادرًا على توجيه ضربة تدميرية إلى إيران لفعل، في حين أنّ ترامب يقول إنّه يوافق على الاتفاق النووي مع إيران، لكنّه يعتبره غير كامل ويطرح تعديله ليشمل الصواريخ البالستية وموضوع علاقة إيران بدول الجوار. لذلك لا يتجه ترامب إلى شنّ حرب على إيران فيما يقول إنّه يريد تحقيق السلام في المنطقة، ولذلك سيستمر الوضع على ما هو عليه في هذه المنطقة إلى حين خروج بايدن من البيت الأبيض، وفي هذا الوقت يمكن ترامب أن يعمل على تواصل مع الجانب الإيراني لعلّه يصل معه إلى صفقة ما يبدأ تنفيذها عمليًا بعد تسلّمه السلطة.

ويقول الخبير الديبلوماسي في الشأن الأميركي إنّ نتنياهو سيتعامل مع بايدن ووزير خارجيته بلينكن من الآن إلى 20 كانون الثاني المقبل، كأنه يتعامل مع "بطة عرجاء". في الوقت الذي سيشكل العهد الأميركي الجديد مصدر قلق للأوروبيين خصوصًا لجهة موقفه من الحرب الأوكرانية وعلاقته الحميمة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وكذلك علاقته مع رئيس كوريا الشمالية كيم جون أون بحيث أنه سيستفيد من هاتين العلاقتين للتعاطي مع منظومة بريكس وتأكيد نفسه أنه رجل سلام ولن يغيّر العالم، وإنما يريد أن تنتهي الحرب الروسية ـ الاوكرانية التي تعهد انهاءها خلال حملاته الانتخابية.

غير أنّ مصدرًا مطّلعًا على الموقف الأميركي يقول في المقابل إنّ السؤال المطروح الآن، هو كيف سينظر العهد الأميركي الجديد إلى الواقع السائد في المنطقة، وتحديدًا في غزة ولبنان؟


شهر العسل الأميركي ـ الإيراني قد انتهى أو أوشك

ترتيب هدنة

ففي الوقت الذي أُعلن أنّ الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكستين آتٍ إلى إسرائيل ولبنان لترتيب هدنة، وبدء البحث في آلية لتنفيذ القرار 1701، يقول المصدر "إنّ مهمّة هوكستين انتهت وانتهى معها كلّ شيء، وإنّ السفيرة الأميركية في لبنان ليزا جونسون "دخلت في مرحلة صار الوقت"، فهناك عهد أميركي انقضى وذهب معه الرئيس باراك أوباما الذي كان يدير خيوط اللعبة من خلف الستار، وكان يمكنه أن يستمرّ في ذلك لو فازت كَمَلا هاريس بدل ترامب.

ويضيف المصدر أنّ إيران كانت تؤيّد وصول هاريس فيما إسرائيل كانت إلى جانب ترامب، ولذلك لم تعد إيران مربوطة بأيّ تفاهم أو تواصل مع الولايات المتحدة الأميركية، وهذا يعني أنّ "الوفيّات كثيرة من القرار 1701 إلى الدولة عمومًا إلى "حلّ الدولتين: خصوصًا أنّ الجمهوريين أطبقوا على الكونغرس، الأمر الذي سينعكس سلبًا على كثيرًا من المسائل، منها موازنة قوات "اليونيفيل" العاملة في الجنوب والمساعدات للجيش اللبناني التي يخشى أن تصبح مشروطة، خصوصًا إذا لم يقم الجيش بواجبه المنصوص عنه في القرار 1701.

وفي "تقريش" لنتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، يقول الخبير الديبلوماسي إنّ دول الخليج المؤيدة للجمهوريين انتصرت، وعلى رأسها السعودية والإمارات، والأمر نفسه ينسحب على الروس والسوريين والفرنسيين والمصريين وغيرهم. ويضيف أنّ من كتب من النواب الأميركيين من أصل لبناني رسالة إلى بايدن يدعونه فيها إلى ضرب حزب الله بيد من حديد وأعيد انتخابهم في الانتخابات الأخيرة سيعاودون كتابة الرسالة نفسها وإرسالها إلى ترامب.

شهر العسل

ويعتبر هذا الخبير أنّ مرحلة العلاقات الأميركية الليّنة مع لبنان والمبنية على التفاهم الأميركي ـ الإيراني الذي ما زال قائمًا في عهد بايدن الذي دخل الهزيع الأخير منه، قد تنتهي بعد فوز ترامب، بمعنى أنّ شهر العسل الأميركي ـ الإيراني قد انتهى أو أوشك، ولم يعد في إمكان قطر منع الأميركيين من توجيه ضربة إلى إيران إذا أرادوا ذلك. وإيران التي أتاح لها عهد بايدن أن تصدّر أكثر من مليوني برميل من النفط يوميًا قد تعود في أيام ترامب إلى تصدير 300,000 برميل فقط إذا لم يحصل أيّ تفاهم بين الجانبين.

في أيّ حال، فإنّ الوضع في لبنان يقف في هذه المرحلة أمام احتمالين: هدنة يمكن التوصّل إليها وتتيح البحث الهادىء في تنفيذ القرار 1701 أو استمرار الحرب على الأقل إلى حين تسلّم ترامب مقاليد الرئاسة في 20 كانون الثاني المقبل. وفي هذا الخضم، تبقى العين على المنطقة في انتظار الردّ الإيراني الذي تشترط إيران وقف النار في لبنان وغزة لعدم الإقدام عليه. وإن لم يتحقق الشرط الإيراني فإنّ ردّ طهران سيحصل حتمًا، وقد يدخل المنطقة في مرحلة جديدة من المواجهات التي تتسبب بحرب شاملة.