"ليس في كلّ مرّة ستسلم الجرة". فالحرب الشاملة في المنطقة آتية ولو بعد حين، ما دام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يعلن أنّ الحرب التي يخوضها هي "حرب وجودية" وأنّه "ما زال في عين العاصفة" ويريد "تغيير وجه الشرق الأوسط"، فيما إيران وأركان محورها بدأوا يتحدّثون عن أنّهم يخوضون "حرب وجود" أيضاً...
وهذه الحرب الشاملة لم تنشب حتّى الآن لأنّ الهجومين المتبادلين بين إيران وإسرائيل كانا مضبوطين ومحدودين بضغط من واشنطن، واقتصرا على الأهداف العسكرية فقط، لأن الإدارة الأميركية لا ترى أنّ أوان هذه الحرب إذا كان لا بد منها قد حان، مثلما يرى محور المقاومة الشيء نفسه. لكن كلّ المتابعين لمجريات هذه الحرب يؤكّدون أنّها ستحصل حتماً وفي وقت لم يعد بعيداً، خصوصاً في عهد الرئيس الأميركي الجديد الذي سينتخب يوم "الثلاثاء الأميركي الكبير"، غداً والذي سيكون المرشحة الديموقراطية ونائبة الرئيس الأميركي الحالي كَمَلا هاريس أو المرشح الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترامب.
المخاوف كثيرة من أنّ هذه الحرب من المتوقّع أن تنشب قبل تسلّم الرئيس الأميركي الجديد مسؤوليته في 20 كانون الثاني المقبل، وفي أبعد الاحتمالات قبل تشكيله إدارته وتموضعها الذي لا يستقرّ عادة قبل الربيع، لكن تسارع الأحداث الجارية في منطقة الشرق الأوسط يرجّح اقتراب موعد هذه الحرب. وثمة من يقول في هذا السياق إنّ نتنياهو يستعجل الخطى لتحقيق أهدافه من الحرب التي يريدها أن تكون "الحرب الأخيرة"، وأن تنتهي بقيام "إسرائيل الكبرى" من النهر إلى البحر إذا استطاع إلى ذلك سبيلاً، وهو يجد أنّ الظروف الإقليمية والدولية ملائمة له في ضوء ما يتلقّاه من دعم في حربه على قطاع غزة وحزب الله وحركة أنصارالله الحوثية وإيران.
طهران يمكن أن تتخلّى عن الرد إذا أوقفت إسرائيل إطلاق النار في غزة ولبنان
على أنّ الهدف الرئيسي لنتنياهو من الحرب هو الوصول إلى الرأس، أي إيران، كونها "راس حربة" كلّ حركات المقاومة ضد إسرائيل في المنطقة. وهو وأسلافه لطالما طمحوا وخطّطوا لتوجيه ضربة لإيران من أجل تدمير منشآتها النووية لخوفهم من احتمال امتلاكها السلاح النووي، وهو السلاح الذي تمتلكه إسرائيل وحدها في منطقة الشرق الأوسط بلا منازع حتى الآن.
وفيما إسرائيل مسكونة بهاجس احتمال امتلاك إيران السلاح النووي وتتحدث عن مواعيد قريبة لهذا الأمر منذ سنتين إلى الآن. خرج رئيس المجلس الاستراتيجي للسياسات الخارجية الإيرانية الدكتور كمال خرازي ليقول قبل أيام " إنّ تغيير العقيدة النووية الإيرانية ما زال مطروحاً في حال تعرض إيران لتهديد وجودي". مضيفاً: "نحن الآن نملك القدرات الفنية اللازمة لإنتاج السلاح النووي، لكن فتوى قائد الثورة السيد علي خامنئي هي فقط ما يمنع ذلك". وحسب المطّلعين على موقف طهران، فإنّ العقيدة النووية الإيرانية الراهنة تقوم على استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية فقط، وعدم تصنيع أيّ سلاح نووي محرّم بفتوى سابقة لخامنئي كونه سلاحاً يفتك بالبشر والحجر والطبيعة فتكاً يخالف الشريعة الإسلامية، وأنّ عسكرة البرنامج الإيراني لا تتمّ إلا بموجب فتوى شرعية جديدة للخامنئي وهي لن تصدر إلّا في حال تعرّض إيران لخطر وجودي وعندئذ "الضرورات تبيح المحظورات".
قاذفات وضربة مدمرة؟
ولكن وعلى رغم من ذلك فإنّ إسرائيل لا تبدي اطمئناناً إلى هذا الأمر لأنّ الأصل عندها ليس الخوف من قنبلة نووية إيرانية فقط، فهناك قنبلة نووية باكستانية مضبوطة أميركياً، ولا تبدي حيالها أيّ خوف، وإنّما خوفها هو من امتلاك إيران المتفلّتة من الضغوط الأميركية التكنولوجيا النووية وارتقائها في هذا الأمر إلى مراتب متقدّمة في نادي الدول النووية، فيما هي تريد أن تكون الدولة الوحيدة في المنطقة التي تملك هذه التكنولوجيا النووية السلمية والعسكرية، ولن يهدأ لها بال إلّا إذا دمّرت البرنامج النووي الإيراني سلمياً أو عسكرياً الآن أو في أيّ فرصة دولية، وأميركية تحديداً، يمكن أن تسنح لها.
ولذلك يعتقد نتنياهو أنّ توجيه ضربة مدمرة لإيران من شأنه أن يقفل "حسابه" مع كلّ "محور المقاومة"، ويجعل يده طليقة في المنطقة، بل يجعل هذه المنطقة خاضعة لمشيئته. ويعتبر أنّ الولايات المتحدة سواء كان رئيسها ترامب أو هاريس ستكون إلى جانبه، وهي على ما يبدو كذلك، وتدعم خطواته التطبيعية وغيرها مع ما تبقّى من دول عربية راغبة أو ستُدفع إلى هذا التطبيع، وإلّا فما الداعي لإرسالها مجموعة من القاذفات الاستراتيجية من طراز "بي 52" قبل أيام إلى المنطقة، حيث أعلنت القيادة الوسطى الأميركية، فجر الأحد الماضي، وصول هذه القاذفات إلى منطقة الشرق الأوسط. وقالت في منشور على حسابها الرسمي في "إكس": "وصلت قاذفات القنابل الاستراتيجية B-52 Stratofortress من جناح القنابل الخامس بقاعدة مينوت الجوية إلى منطقة مسؤولية القيادة الوسطى". فيما كان البنتاغون أعلن يوم الجمعة الفائت أنّ الهدف من إرسال هذه القاذفات هو"تحذير إيران والدفاع عن إسرائيل".
واشنطن تنفض اليد
غير أنّ ما يدفع المراقبين والمتابعين إلى التخوّف من نشوب الحرب الشاملة هو أنه في ظلّ الاستعداد الإيراني الجاري على قدم وساق للردّ على الهجوم الإسرائيلي الأخير تحت اسم "الوعد الصادق 3"، هو توجيه واشنطن رسالة إلى طهران عبر سويسرا تحذّرها من الإقدام على هذا الردّ، مؤكّدة لها أنّها "لن تكون قادرة على كبح جماح الإسرائيليين"، وذلك وفقًا لما نقله موقع "أكسيوس" عن مسؤول أميركي بقوله: "أخبرنا الإيرانيين: لن نكون قادرين على صدّ إسرائيل، ولن نكون قادرين على التأكّد من أنّ الهجوم المقبل سيكون محسوباً ومستهدفاً مثل الهجوم السابق". وكان اللافت أنّ البيت الأبيض رفض التعليق على هذا الأمر، وكذلك البعثة الإيرانية لدى الأمم المتحدة.
وكذلك فإنّ ما يزيد من المخاوف هو ما أعلنته "هيئة البث الإسرائيلية" من أنّ "الخطوط الجوية الأميركية ألغت كلّ رحلاتها إلى إسرائيل حتى نهاية صيف عام 2025".
وفي الوقت الذي أشار نائب قائد الحرس الثوري الإيراني، إلى أنّ "عملية الوعد الصادق الثالثة ستنفّذ قطعاً، ولكن لا يمكن الحديث عن تفاصيلها"، تقول المصادر الديبلوماسية المطّلعة على الموقف الإيراني في مقابل المواقف الأميركية والإسرائيلية أنّ طهران يمكن أن تتخلّى عن الرد أو "الوعد الصادق 3" إذا أوقفت إسرائيل إطلاق النار في غزة ولبنان. إلى درجة أنّ الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان ردّ بطريقة غير مباشرة على "الرسالة ـ التحذير" الأميركية بالقول عبر وكالة "إرنا" الإيرانية الرسمية "إذا أعاد الإسرائيليون النظر في سلوكهم، وقبلوا وقفاً لإطلاق النار وتوقّفوا عن قتل المظلومين والأبرياء، فقد يكون لهذا تأثير شديد على هجومنا ونوعه".
حربٌ طويلة
والواقع أنّ إسرائيل التي في الوقت الذي تولي فيه بعض الأهمية لقضية إطلاق أسراها لدى "حماس" وأخواتها في غزة من دون الحديث عن وقف لإطلاق النار هناك، فإنّها ستستمر في التصعيد على الجبهة اللبنانية محاولة فرض حلّ بشروطها، بدليل ما قاله نتنياهو أمس أثناء تفقّده الجبهة الشمالية من أنّه "مع اتفاق أو من دونه، فإنّ مفتاح استعادة السلام والأمن في الشمال، ومفتاح إعادة سكاننا في الشمال إلى ديارهم في أمان، هما: أولاً وقبل كل شيء دفعا حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني، وثانياً استهداف أيّ محاولة لمعاودة التسلّح، وثالثاً الرد بحزم على أيّ إجراء يُتخذ ضدنا".
على أنّ وزارة الدفاع الاسرائيلية أعلنت البدء بأعمال تحصين مبان وحماية في بلدات عدة محاذية للحدود الشمالية، وتشمل أيضاً إضافة أكثر من 200 ملجأ في بلدات بالجولان والجليل الأعلى والغربي.
ويبدو أنّ مجمل هذه التطورات مع ما التقطته لواقطه التي يشتهر بها دفعت الرئيس السابق للحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط، إلى القول "إنّ الحرب طويلة". وبعد استقباله الرئيس نجيب ميقاتي دعا الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكستين إلى إجابة ميقاتي ورئيس مجلس النواب نبيه بري على موضوع وقف إطلاق النار، كذلك دعا الولايات المتحدة إلى "فرض وقف إطلاق النار".
وتفيد المعلومات بأن هوكستين حمل بعد زيارته الأخيرة للبنان اتفاقاً تمّ بينه وبين بري وكان يُفترض أن يأتي بردّ اسرائيلي عليه، ويتضمّن البنود الآتية:
ـ وقف إطلاق نار شامل في كلّ من لبنان وإسرائيل.
ـ انتشار الجيش اللبناني في المناطق الجنوبية إلى الحدود.
ـ انسحاب كلّ وجود عسكري غير رسمي إلى شمال نهر الليطاني.
ـ إحياء التفاوض غير المباشر في شأن الخط الأزرق.
والواقع أنّ إسرائيل هي في واد آخر بدليل تمسّكها بشروطها التي أعلنها نتنياهو ولم تتزحزح عنها بعد، في الوقت الذي نقلت قناة "الحرة" الأميركية عن مصدر عسكري إسرائيلي قوله "إنّ الجيش ينتظر إيعازًا من المستوى السياسي في شأن المرحلة المقبلة من الحرب على الجبهة الشمالية مع حزب الله في لبنان". كاشفاً أنّ المطروح أمام الجيش الإسرائيلي هو "إمّا إعادة تمركز ونشر القوات بما يتناسب والأهداف التي تم تحقيقها، أو تعميق العملية العسكرية في داخل الأراضي اللبنانية في ما يسمّى الخط الثاني".
في أيّ حال، فإنّ الحرب مستمرّة وإنّ إسرائيل ستبقي عليها على وقع ذهابها إلى الحرب الشاملة التي تريد منها رأس إيران أولاً وأخيراً.