الحرب المدمِّرة الوحشية التي يشنُّها الشيطان الأصغر، بغطاء دولي يشجع ذاك الشيطان على المضي بها، ما هي إلَّا فصل من فصول المأساة التاريخية اللبنانية، التي تتجلَّى، كل مدة، بمظهر مختلف.
قتل ممنهج وعشوائي تمارسه إسرائيل على لبنان وأهله. دمار ممنهج وحاقد تخلِّفه في ربوعنا. تجاوز لكلِّ المبادئ القانونيَّة والقيميَّة الدوليَّة، من استهداف طفل رضيع، إلى تهديد قلاع ومعالم أثريَّة تاريخيَّة أو أسواق شعبية مرتبطة بالذَّاكرة والوجدان...
فهل قضت بذلك على لبنان، على الرَّغم من أصوات النَّشاز الداخلية والخارجية التي تسيء إلى النسيج الوطني اللبناني؟ أؤكد أن لا... مهما طال أمَد الجنون المستفرد بنا.
فما يحدث اليوم أعادني بالذاكرة إلى العام 1999، حين شاركت من ضمن فريق تحقيق ميداني تابع للصليب الأحمر الدولي، للإضاءة على ما خلَّفته الحرب في لبنان (1975 – 1990). تحقيق استمر شهرًا، وشمل شرائح اجتماعية وحالات إنسانية متنوعة، جلتُ خلاله على معظم قرى الجنوب (ما خلا الشريط الحدودي آنذاك)، وأحياء الضاحية الجنوبية، وتُوِّج بحضوري مؤتمرًا في جنيف للكونفدراليَّة الدوليَّة للصَّليب الأحمر والهلال الأحمر عن تأثير الحروب التي كانت لا تزال مندلعة آنذاك في 20 دولة، في شعوب تلك الدول.
خرجت من التجربة اللُّبنانيَّة باثنتي عشرة قصَّة نُشرت في الذكرى الخامسة والعشرين لاندلاع الحرب، في إحدى الصُّحف اللبنانية، وبعبرة قاسية ربما هي أنَّ الدول بلا قلب وأن قلبَها مصالحها، ليس إلَّا، وبتعزيةٍ أثلجتني وهي أنَّ هذا الشعب اللبناني الذي عانى طويلًا، كم هو متصالح مع ذاته... وهذا هو ربما سرُّ صموده.
وما زالت الدول بلا قلب، وقلبها مصالحها، وما زال الشَّعب اللُّبناني، على الرَّغم من أزمته الاقتصاديَّة المزمنة، ومن نظامه السِّياسي الفاشل، ومن حال التهجير غير المسبوقة، متصالحًا مع ذاته، وصامدًا بالمحبَّة والأخوَّة والتَّعاون.
الحقيقة والشِّعر توأمان. والشاعر سعيد عقل اختصر حقيقة لبنان حين قال إنه مضى في تاريخه من خطر إلى خطر، غير منهَمٍّ، لأنه وُلد بيته الخطر.
وإذا كانت الدول تحدد جغرافيًّا وفق خطوط الطول والعرض، على الخارطة العالمية، فالتاريخ والجيوبوليتيك والوقائع تقول إن موقع لبنان هو على التقاء خطَّي الخطر وحب البقاء... والخطر اليوم كبير، لكن حبَّ البقاء هو الأكبر.
ليست حرب لبنان الأولى التي اندلعت عام 1975، وما زالت آثارها قائمة حتى اليوم، وانعكاساتها تتجلَّى وتتوالد على مرأى ومسمع من شعبه الذي ما زال يأمل وينتظر أن غدًا سيأتي ويحمل الفرج. وليست مصالحته الأولى التي تعقد بين المتحاربين، سبقت ذلك في التاريخ حروب أخرى، ومصالحات كثيرة، لم نعتبر منها كفاية.
وثمة سؤال: ما كانت هوية الحرب في لبنان؟ أو عليه؟ أنا أجزم بأنها لم تكن يومًا حربًا أهلية، إذ لم يسعَ أحد إلى إبادة الآخر أو إقناعه بالقوة بمذهبه أو بعقيدته السياسيَّة، أو لم تكن لانتزاع صلاحيات في الحكم. كانت أرضنا ساحة لتصفية حسابات دوليَّة وإقليميَّة مرتكزها القضيَّة الفلسطينيَّة، وسببها عدم إيجاد حل عادل لها حتى الآن... وما زال الهدف إيَّاه، واللاعبون أنفسهم، والرُّعاة أيضًا وأيضًا.
وثمة سؤال آخر: هل اتَّفق اللبنانيون، في مؤتمرات مصالحاتهم وفي دستورهم، على نظرة واحدة إلى هوِّيَّة لبنان؟ أجزم بأن لا، لأنَّ ثمَّة من لم يتخلَّ عن مشاريع الضَّم أو الإلحاق أو التقسيم أو الفدراليَّة أو الكونفدراليَّة... إلخ. وهذه النغمات تتكرر اليوم، وتدغدغ أحلامًا وأمنيات.
وثمة سؤال بعد: لماذا لم تؤدِّ المصالحات إلى شعور بالأمان والثقة ما زال مفقودًا، والخشية يوميَّة أن ينهار عقد الطائف الذي رممَّه عقد الدَّوحة، فيما ثمة أكثر من مليون ونص مليون مهاجر تركوا لبنان ولن يعودوا، وثمة آلاف المهجرين كانوا ما زالوا على قارعات الطريق والنسيان والإهمال والاعتبارات السياسيَّة، أضيف إليهم اليوم عشرات الآلاف مدنهم وقراهم أثر بعد عين، وثمَّة 17 ألف مفقود أو مغيَّب قسرًا أو معتقل في سجون خارج لبنان، من دون أن يُعرف شيء عن مصيرهم، وسط أداء رسميٍّ مشبوه، إذا صحَّ التعبير، لجلاء حقيقتهم.
لبنان... لم يتصالح أبناؤه ليس لأن الحقد يسيطر على قلوبهم والخلافات مستحكمة بينهم، بل لأنَّهم، فعليًا، ليسوا متخاصمين، ولكن قد يكونون ضحايا لعبة أمم دوليَّة تريد تصفية قضيَّة شعب على حساب شعب آخر، ضمن ما عُرف بنظريَّة الشعب الفائض... المستمرَّة منذ ما بعد حرب العام 1967. وفحوى تلك النظريَّة أنَّ الدول القائمة اليوم في هذا الشَّرق الأوسط خمس: مصر، سوريا، لبنان، الأردن، إسرائيل، وأنَّ شعوبها ستة: المصري، السوري، اللبناني، الأردني، الإسرائيلي، الفلسطيني. والفلسطيني، في عرف تلك النظريَّة هو الفائض، ومكانه ليس إسرائيل، بل إحدى الدُّول الأخرى.
وإذا كان الشَّعب يلوي مع اتجاه الريح في هذا الاتجاه أو ذاك، فما بال قياداته، التي يفرزها نظام سياسي مريض، لا تعي وتئد أيَّ فتنة، يسعى إليها كثر اليوم، أو تنأى بلبنان عن أيِّ تأثير خارجي. هي قادرة على ذلك، فتحقِّق المصالحة الحقيقيَّة، بالمصارحة المكشوفة.
مشكلة لبنان في أنَّه نموذج سبق عصره في أن يكون واحةً تلتقي فيها الإتنيَّات والمذاهب والعقائد والأفكار، مهما تنوعت وتعدَّدت وتناقضت، أليس هذا ما تطرحه العولمة اليوم، مع مفارقة صارخة تتجلَّى في إبراز الذاتيَّة في هذا المشهد المعولم؟
مهما طالت هذه الحرب، وأتمنَّى أن تنتهي أمس قبل اليوم، سيعرف الشعب اللبناني، في اليوم التالي كيف يعود إلى الحياة، وينهض بالوطن، من دون انتظار أحد، لأنَّه يكنه تمامًا سرَّ التقاء خطَّي الخطر وحبِّ البقاء... وسيبقى.