قد تكون هذه من أغرب الانتخابات الرئاسية في التاريخ الأميركي. من طبيعة السباق بين المرشحة الديموقراطية كَمَلا هاريس والمرشح الجمهوري دونالد ترامب، إلى الاستقطاب الحاد داخل المجتمع الأميركي وزيادة تناقضاته، إلى الخلاف على دور الولايات المتحدة في الخارج.
ليس الأميركيون وحدهم من يترقّب الثلاثاء المقبل، وإنّما دول كثيرة في العالم ترى أنّ مصائرها معلّقة على فوز هاريس، أول امرأة من أصول أفريقية وآسيوية تخوض السباق الرئاسي، أو على فوز ترامب، أول رئيس سابق يتهم بقضايا جنائية.
وبعيداً عن القضايا المثارة في الحملات الانتخابية مثل الهجرة والاقتصاد والإجهاض والسياسة الخارجية، استخدم المرشحان كلّ أنواع الاتهامات أحدهما ضد الآخر. ترامب، صاحب الخطاب الشعبوي بامتياز، يقول عن هاريس إنّها "ماركسية ومتشردة" وبمثابة "عدو من الداخل"، وهاريس تصف الرئيس السابق بأنّه فاشي و"تهديد للديموقراطية"، وتستشهد بأقوال مساعدين سابقين عملوا معه إبان رئاسته الأولى، ومنهم جون كيلي ورئيس هيئة الأركان المشتركة السابق الجنرال مارك ميلي.
السباق الرئاسي هذه السنة كاد يكون تنافساً بين نجوم المجتمع الأميركي، بعد إعلان الملياردير إيلون ماسك صاحب سيارات "تسلا" الكهربائية ومنصة "إكس" للتواصل الاجتماعي تأييده لترامب، فيما أعلنت المغنية تايلور سويفت التي تملك 8 ملايين متابع على تطبيق انستغرام، تأييدها لهاريس، وكذلك فعلت زميلتها بيونسيه.
قد تواجه واشنطن معضلة أخرى شبيهة بتلك التي نشأت عقب انتخابات 2020. وهي عدم اعتراف ترامب بالنتائج في حال هزيمته.
وارتدى ترشيح هاريس أهمية تاريخية. واستطاعت طرد واحد من الانتقادات الرئيسية التي توجه إليها، ألا وهو افتقارها إلى الحافز والتركيز. وبعدما باتت نائبة للرئيس في 2021، كان ينظر إلى هاريس على أنها تفتقر إلى الكاريزما والمهارات السياسية الأساسية. وكان الرأي السائد في واشنطن، هو أنّ بايدن قد اختارها لأنّها أمرأة سوداء ذات جذور آسيوية، وليس بسبب مزاياها.
ترشيح الحزب الديموقراطي لهاريس جاء متأخراً، لأنّ بايدن كان يصرّ على أنّه الديموقراطي الوحيد القادر على إلحاق الهزيمة بترامب. لكنّ بايدن الذي ظهر بقدرات جسدية وذهنية متراجعة في المناظرة التلفزيونية مع ترامب في أواخر حزيران، تعرّض لضغوط قوية من حزبه ومن المتبرّعين الكبار للحزب الديموقراطي للانسحاب من السباق. ولم يعلن الانسحاب إلّا في أواخر تموز، ليعلن تأييده لترشيح هاريس قبل أقلّ من شهر على انعقاد المؤتمر الوطني للحزب الديموقراطي في شيكاغو في 17 آب.
استفادت هاريس من الإجماع الذي لاقته حولها، وأظهرت استطلاعات الرأي في الأشهر التي تلت ترشيحها تفوقاً بأربع إلى خمس نقاط على ترامب على المستوى الوطني. أمّا في الأسابيع الأخيرة، فقد بدأت شعبيتها بالتراجع ليتفوّق عليها ترامب بنسبة واحد في المئة، بينما يخوض المرشّحان سباقاً محموماً في الولايات السبع المتأرجحة، التي تحسم عادة الانتخابات، مع عدم إغفال بعض التوقعات التي ترجح حصول مفاجآت، كأن تتحول نيويورك (غير المتأرجحة والديموقراطية عادة) إلى الموجة الحمراء الجمهورية، بينما تذهب تكساس (غير المتأرجحة والجمهورية عادة) نحو الموجة الزرقاء الديموقراطية، ممّا يخلط الأوراق.
يعزى تراجع هاريس إلى عوامل عدّة، أبرزها أنّ المدة الزمنية التي فصلت بين الإعلان عن ترشيحها وموعد الانتخابات لم تكن كافية لتقدّم نفسها للأميركيين بما يكفي لإقناعهم بانتخابها. ثم هناك أيضاً عدم تقبل الرجال السود بأن تقود الولايات المتحدة امرأة. يضاف إلى ذلك أنّ حاكم مينيسوتا تيم والز الذي اختارته هاريس على لائحتها لمنصب نائب الرئيس، كان بهدف اجتذاب طبقة العمال البيض في ما يطلق عليه "حزام الصدأ"، لم يلقَ الاستجابة المطلوبة، بينما تفوّق عليه في هذا المجال السناتور جيه. دي. فانس المرشح لمنصب نائب الرئيس على لائحة ترامب. وكلّ الاستطلاعات التي أجريت بعد المناظرة بينهما في أوائل تشرين الأول، أظهرت سيطرة فانس.
نقطتا الضعف عند هاريس هما الاقتصاد والهجرة. ذلك أنّ غالبية الأميركيين يرون أن ترامب أكثر قدرة على معالجة التضخم والتعامل مع المهاجرين الذي يتدفقون عبر الحدود المكسيكية من بلدان أميركا اللاتينية. ولا يوفر ترامب وسيلة لاجتذاب الأصوات في الولايات المتأرجحة. واعتذر مثلاً في أريزونا للسكان الأصليين عن الظلم الذي لحق بهم لمدة 150 عاماً.
يقدم ترامب هاريس على أنها استمرارية لولاية بايدن. وخلال المناظرة التي جرت بينهما في 10 أيلول الماضي، حرصت هاريس على تذكير الرئيس السابق على أنّه يقف أمامها وليس أمام بايدن.
وفي حقيقة الأمر، لم توفق هاريس كثيراً في فصل نفسها وما تنادي به عن إرث بايدن، سواء في الاقتصاد أو الهجرة أو السياسة الخارجية. والسياسة الخارجية قفزت في هذه الانتخابات لتلعب دوراً مهماً في تقرير هوية الفائز، لأنّ هناك حربيْن دائرتيْن في أوكرانيا والشرق الأوسط.
ترامب يعد بإنهاء الحربين في وقت قصير إذا ما فاز، بينما هاريس حاولت الالتصاق ببايدن في أوكرانيا والتمايز عنه في غزة. لكنها أخفقت في اقناع الناخبين التقدميين والعرب والمسلمين في أنها تفترق كثيراً عن بايدن في موضوع التأييد المطلق لإسرائيل.
حلفاء الولايات المتحدة كما خصومها، ينظرون بأهمية استثنائية إلى الثلاثاء المقبل. عودة ترامب تعني العودة إلى شعار "أميركا أولاً" وتعزيز الاتجاه الانعزالي على حساب أوروبا وحلف شمال الأطلسي، وأولى الضحايا قد تكون أوكرانيا. أمّا الفلسطينيون فهم في الموقع الخاسر سواء مع ترامب أو هاريس.
وبقدر ما قد تخلق عودة ترامب ارتياحاً لدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فإنّها في الوقت نفسه تثير حذراً في الصين التي ستكون مستهدفة بزيادة 60 في المئة في التعريفات الجمركية على البضائع الصينية وفق ما يتعهد المرشح الجمهوري، ممّا يعني اندلاع حرب تجارية مع ثاني قوة اقتصادية في العالم.
وعلاوة على كلّ ذلك، قد تواجه واشنطن معضلة أخرى شبيهة بتلك التي نشأت عقب انتخابات 2020. وهي عدم اعتراف ترامب بالنتائج في حال هزيمته. ونسبة كبيرة من الأميركيين ترى أنّ ترامب لن يعترف بالهزيمة، مما يعمّق حالة الانقسام في البلاد وربما إلى اضطرابات شبيهة بما حدث في 6 كانون الثاني 2021، عندما اقتحم مؤيدون لترامب مبنى الكونغرس في واشنطن في محاولة يائسة لمنع المصادقة على انتخاب بايدن.