ثمَّة خلفيَّات دينيَّة وحضاريَّة دفينة وموروثة، تملي على الغرب ممثَّلًا بالولايات المتَّحدة الأميركيَّة، وعلى إسرائيل، هستيريا الجنون والحقد والقتل والدَّمار، التي تُشنُّ على لبنان منذ أكثر من شهر.

قلت إِنَّها خلفيَّات دفينة، لأنَّ ثمَّة تشويهًا متعمَّدًا لما قدمه أهل هذه الأرض (سمِّهم ما شئت، كنعانيين، فينيقيين، لبنانيين)، إلى العالم من عطاءات وخدمات إنسانيَّة رائدة، حتى اختصر كلَّ ذاك التَّاريخ، بمجده الإنساني، رجل الدَّولة الفرنسي المؤرخ عضو الأكاديمية الفرنسية ألبرت أوغست غبريال هانوتو (1853-1944)، فكتب: "إذا لم يكن لبنان من ضمن الجبال الأعلى ارتفاعًا في العالم، فهو بلا شك أعلى قمة في التاريخ".

علماء روس زاروا لبنان وعاينوا قلعة بعلبك، فخلصوا إلى أنَّ من بناها هم أناس من الفضاء، لعظمة بنائها...

وثمَّة مؤرِّخ فرنسي آخر من الذين تعمَّقوا بتاريخ لبنان، كتب أنَّ "صيدا وصور كانتا ذات يوم، كلَّ تاريخ البشرية".

ونقل المفكِّر اللُّبناني إميل الخوري حرب، في كتابه "التُّراث اللُّبنانيّ العظيم"، عن علماء روس زاروا لبنان وعاينوا قلعة بعلبك، فخلصوا إلى أنَّ من بناها هم أناس من الفضاء، لعظمة بنائها، والإعجاز العمراني فيها الذي يتجاوز قدرة إنسان هذه الأرض وعقله.

لا بل يتفرَّد لبنان بين سائر الأمم، بميزتين: قِدَمُ اسمه... ومُرَسِّمُ حدودِه.

أمَّا اسمه، فبحسب مؤرِّخين كثر، ومنهم أنطوان الخوري حرب، ورد في أقدم نصٍّ اكتشف حتَّى الآن، يعود الى القرن الَّتاسع عشر قبل الميلاد، مكتوب بالخط المسماريِّ المقطعيِّ على ألواح من الأجرِّ المشويِّ، هو النُّسخة البابليَّة لملحمة غلغامش السَّومريَّة التي وُضعت منتصف الألف الثَّالث قبل الميلاد. ومذذاك، أي منذ أكثر من 4000 سنة، كان اسم لبنان واستمر إلى اليوم بلا انقطاع.

أمَّا في الميزة الثانية، فإذا كانت حدود بعض الدول رُسِّمت طبيعيًّا (بحر أو جبل أو صحراء أو نهر كبير)، وبعضها الآخر رسِّم بالدم، والبعض الثَّالث بالاِّتفاقات الدَّوليَّة، والبعض الرَّابع بشراء أراضٍ من دولة اخرى، إلخ... فإن مرسِّم حدود لبنان، كما هي اليوم تقريبًا، ما هو إلَّا الله بذاته. كيف؟

ففضلًا عن أنَّ اسم لبنان ورد في الكتاب المقدَّس، العهد القديم، تصريحًا أو تلميحًا، 309 مرات (بحسب القسِّ غسان إيليَّا خلف)، وما اقترَّن مرَّة أخرى منها إلَّا بأحد ثلاثة: الجمال والعظمة والخلود، فقد ظهرت حدوده القائمة اليوم، واضحة لا لَبس فيها، في آيتين من سِفْرَي يشوع والقضاة.

ورد في سفر يشوع (1:13 – 6): "... وأرض الجبيليين وجميع لبنان جهة مشرق الشَّمس من بعل جاد تحت جبل حرمون إلى مدخل حماه...".

وورد في سفر القضاة: (3:3): "... جميع الكنعانيِّين والصيدونيِّين والحيويِّين المقيمين في جبل لبنان، من جبل بعل حرمون إلى مدخل حماه...".

أي، بتعابير اليوم، من حاصبيا ومرجعيون إلى عكار.

وما الكتاب المقدَّس إلَّا كلام الله، وهذا ما ورد فيه حرفيًّا. أَلا يكون سبحانه تعالى، هو بذاته، مرسِّمَ حدود لبنان؟

أدرجتُ هذه الوقائع التي يعارضها مؤرِّخون وكتَّاب وباحثون، ولا تأخذ بها عقائد أيديولوجيَّة ومدارس سياسيَّة، لأنَّهم جميعًا وقعوا أسرى التَّعتيم المتعمَّد على مساهمة أهل هذه الأرض في تاريخ العالم. وهو تعتيم تقف وراءه جهتان: بنو إسرائيل الَّذين خاصموا الفينيقيِّين، واليونانيُّون ومن ثمَّ الرُّومان.

فهل كان لإسرائيل أن تتمادى، إلى حدِّ الوقاحة ودوس القيم الإنسانيَّة والمبادئ العالميَّة وشرع حقوق الإنسان، في حربها الهستيريَّة على لبنان، قتلًا وتدميرًا وجرفًا للقرى والمنازل، في الجنوب والبقاع والنَّبطيَّة والضاحية الجنوبيَّة، لولا الدَّعم المطلق من الغرب المدَّعي وراثة الثَّقافة اليونانيَّة – الرومانيَّة، بالمال والعتاد والسِّلاح والمواقف السِّياسيَّة؟

يُختصر الحقد الإسرائيليِّ الدَّفين على كنعان/فينيقيا، بأربع وقائع: أولًا بناء ملكيصادق، الكاهنِ الكنعانيِّ، مدينة أورشليم لتكون مدينة سلام، لكنَّ مملكة إسرائيل قديمًا، ودولة إسرائيل اليوم، حولتا أورشليم مدينة انقسام وانشقاق وتمييز.    

ثانيًا، إيمان أهل هذه الأرض، أجدادنا، بالقيامة بعد الموت، الأمر الذي خالفته عقائد يهوديَّة قديمة. ثالثًا، اعتناق أهل هذه الأرض المسيحيَّة، ممَّا أغاظ اليهود الذين أسهموا، بقوَّة، في صلب المسيح. رابعًا اتهام اليهود الفينيقيين بقتل الأطفال، من خلال تقديمهم أضحية، وهو اتهام باطل.

ويُختصر حقد اليونانيِّين على أهل هذه الأرض، بأنَّهم لم يغفروا لأجدادنا مؤازرتهم الفرس في قتالهم الإسكندر الكبير، فراحوا ينسبون كلَّ ما أخذوه عن حضارتنا إليهم، وأهملوا أيَّ مساهمة لأجدادنا، في أيٍّ من عطاءات الحضارة. أضف إلى ذلك حقد الرُّومان الذين صبُّوا جام غضبهم على قرطاج الفينيقيَّة، لأنَّها تجرَّأت على التَّظاهر بمنافسة أمبراطوريَّتهم.

أنعجبُ بعد، حين نرى صور وبعلبكَّ ومعالم أثريَّة ودينيَّة، في أكثر من منطقة لبنانيَّة، فرائس الطيران الحربي الإسرائيلي، وسط صمتٍ دوليٍّ مريب، ولا سيَّما من منظَّمات تُعنى بحقوق الإنسان والتُّراث الإنسانيِّ العالميِّ؟

أونعجب أكثر أنَّ ما نشهده، ليس إلَّا انتقامًا ولو متأخِّرًا، من مدن لبنانية، كانت لها السِّيادة والنُّفوذ على العالم القديم والرِّيادة في العطاء والرُّقيِّ والحضارة؟

لهؤلاء الحاقدين أقول: صحيح أنَّ طائر الفينيق أسطورة آمن بها أهل هذه الأرض، لكنَّهم عاشوها، طَوال سنين، وما زالوا، وتراهم يخرجون من الرَّماد، ينفضونه عنهم، ثمَّ يحلِّقون من جديد... وهيهاتَ أن يتَّسع فضاءٌ لأجنحتهم.