احتمالان لا ثالث لهما ينطوي عليهما الردّ الإسرائيلي على الهجوم الصاروخي الإيراني الأخير (الوعد الصادق 2) انتقاماً لاغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، رد تل أبيب جاء محدوداً ومضبوطاً على الساعة الأميركية التي بدأت عقاربها تقترب من موعد السباق إلى البيت الأبيض بين المرشحة الديموقراطية كَملا هاريس نائبة الرئيس الأميركي جوزف بايدن وبين المرشح الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترامب.

الاحتمال الأول، أنّ إسرائيل أرادت أن يكون ردّها بهذا الحجم "المحدود والمضبوط" بحيث أنّه شمل مجموعة ضئيلة من الأهداف غير الأساسية والرئيسية العسكرية التابعة للجيش والحرس الثوري الإسلامي (الباسدران) الإيرانيين، حسب الرواية الإيرانية، و20 موقعاً حسب الرواية الإسرائيلية.

وحسب مصدر ديبلوماسي، فإنّ هذا الردّ الإسرائيلي كان منسّقاً كلّياً مع الإدارة الأميركية التي تحرص على عدم الدخول في خطوات غير محسوبة، خصوصاً إذا انزلق الوضع إلى حرب شاملة ليس زمانها الآن، إذ تمرّ الولايات المتحدة الأميركية بمرحلة انتقالية بين إدارة مُدبِرة وأخرى مُقبِلة. وإنّ إرسال المنظومة الصاروخية الأميركية من طراز "ثاد" الأكثر تطوّراً في العالم والمضادّة للصواريخ البالستية الإيرانية وغيرها التي يمكن إسرائيل أن تتعرّض لها (كما في الهجومين الصاروخيين الأخيرين وكذلك في الهجمات الحوثية)، إنّما كان في سياق جعل الرد الإسرائيلي مضبوطاً لأنّه خلافاً للحديث الإسرائيلي عن استخدام مئة طائرة إف 16 وإف 35، فإنّ الرواية الإيرانية تحدثت عن أنّ الهجوم كان صاروخياً فقط، ولا طيران حربياً شارك فيه، إذ لا يمكن عاقلاً أن يصدق أنّ إسرائيل تستطيع أن تسيّر مئة طائرة حربية لمسافة تربو على ألف وستمئة كيلومتر، لتقصف مواقع على الأراضي الإيرانية وتعود إلى إسرائيل أو إلى قواعد أميركية في المنطقة بلا عوائق لوجستية، لأنه لا يمكن عملياً ونظرياً تزويد هذه الطائرات الوقود في الجو بسهولة وبالسرعة المطلوبة.

وهذا الاحتمال إذا صحّ فإنّه كان مضبوطاً أميركياً بالفعل وبرضى إسرائيل، فذلك يفترض أن الإدارة الأميركية نجحت في ضغوطها لفرض حلول تنهي الحرب في غزة ولبنان، وتفتح الطريق إلى تفاهم بين واشنطن وطهران على الملف النووي الإيراني، خصوصاً إذا فازت الديموقراطية هاريس بالرئاسة، وهو ما تتمنّاه القيادة الإيرانية باعتبار أنّ إدارة الرئيس السابق باراك أوباما هي من أبرم الاتفاق النووي مع إيران عام 2015 قبل أن يطيحه ترامب لدى توليه الرئاسة الاميركية بين العامين 2017 و2012، ووصل في نزاعه مع إيران إلى حد اتخاذه القرار باغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني اللواء قاسم سليمان في 3 كانون الثاني عام 2020 قرب مطار بغداد.

ومع أنّ واشنطن لا يضيرها أن تسحق إسرائيل في حربها الراهنة على حركة "حماس" وأخواتها في غزة وحزب الله في لبنان، فقد وصلت على ما يبدو إلى اقتناع بأنّ إسرائيل بدأت تتعثّر في هذا السحق، خصوصاً بالنسبة إلى حزب الله الذي لم يمكّن مقاتلوه الجحافل الإسرائيلية المتلاحقة من احتلال المنطقة الحدودية اللبنانية، حيث يوقع فيها عشرات القتلى والجرحى ويدمّر آلياتها، فيما بدأت أصوات إسرائيلية لجنرالات وقيادات سياسية تدعو إلى وقف الحرب التي لن تنتصر فيها تل أبيب.

وقد سبق الهجوم الإسرائيلي "المضبوط" على إيران حراك ديبلوماسي أميركي لوقف النار في غزة، وإطلاق الأسرى الإسرائيليين لدى حماس، وإنهاء الحرب على لبنان بتنفيذ القرار الدولي 1701. حراك تولّاه وزير الخارجية أنتوني بلنكن الذي جال في المنطقة واستعاض عن زيارة لبنان بلقاء عقده في لندن مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، الذي كان التقى ورئيس مجلس النواب نبيه بري الإثنين الماضي الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكستين في بيروت، وكان اتفاق على أنّ ما يوقف الحرب هو تنفيذ القرار 1701 بكل مندرجاته، ومن دون التعديل الذي طرحه الأميركيون والشروط التي طرحها الإسرائيليون. وكان اللافت ما قاله مسؤول كبير في البيت الأبيض بعد ساعات من الهجوم الإسرائيلي على إيران، وهو أنّ الإدارة الأميركية "تعمل على التوصّل إلى إنهاء الحرب في لبنان ووقف إطلاق النار في غزة"، مشيراً إلى أنّه "تمّ الإعداد للهجوم الإسرائيلي على إيران بحيث يكون فعّالاً"، ومعتبراً أنّه "ستكون هناك تداعيات لأيّ ردّ إيراني". لكنّه حرص في المقابل على التأكيد أنّ "إسرائيل أخطرت الولايات المتحدة قبل شنّ ضرباتها، لكن واشنطن لم تشارك في العملية".

كذلك كان اللافت للأوساط السياسية المتابعة أيضاً اعتراف مصادر أميركية بأنّ نتنياهو في ردّه على إيران التزم للمرّة الأولى منذ شنه الحرب على غزة، الضوابط الأميركية التي حدّدتها واشنطن عندما نسّقت معه هذا الردّ.

إلّا أنّه بغضّ النّظر عن التسريبات الأميركية حول التزام نتنياهو "الضوابط الأميركية"، فإنّه ما كان ليفعل ذلك لو لم يأخذ في الاعتبار مصالحه ومصلحة صديقه ترامب، مع العلم أنّ سياسيين يعتقدون أنّه لو ذهب إلى ردّ كبير وتسبّب بحرب شاملة في المنطقة لكان قدّم "خدمة جليلة" إلى ترامب وأصاب من منافسته هاريس مقتلاً انتخابياً.

لا حلّ للحرب الإسرائيلية على لبنان في الأفق

الاحتمال الثاني

أمّا الاحتمال الثاني فهو أنّ نتنياهو قد يكون أجّل إلى مرحلة لاحقة السعي إلى تحقيق هدفه الإستراتيجي بتوجيه ضربة مدمّرة إلى إيران الصاعدة نووياً، والتي يرى فيها خطراً وجودياً يهدّد إسرائيل،وهذا ما يعني أنّه أراد من "ضربته المحدودة" مقدمة لتلك الضربة التي يمكن أن يسدّدها لاحقاً وخلال عهد ترامب في حال وصوله إلى البيت الأبيض.

وفي المقابل، فإنّ ايران ليست من السذاجة لتأمن الجانب الإسرائيلي وتعتبر أنّ ضربته المحدودة لها المضبوطة أميركياً تدلّ إلى عدم رغبة نتنياهو في خوض حرب شاملة، بل على العكس ستظلّ متوثّبة ومستعدّة لكلّ الاحتمالات حتى ولو فازت هاريس التي تحبّذ وصولها إلى البيت الأبيض ولا ترتاح البتة إلى وصول ترامب.

وعندما تقول واشنطن إنّ نتنياهو التزام ضوابطها ولم يكبّر حجم الهجوم على إيران، فذلك يعني أحد أمرين: إمّا أنّها تخوض مفاوضات غير مباشرة مع طهران بعيداً من الأضواء حول مستقبل الوضع في منطقة الشرق الأوسط ولم تنته بعد، وبالتالي لا تريد لإسرائيل المشاغبة عليها إلى أن تحقق أهدافها منها، خصوصاً قبل الانتخابات الرئاسية إذ تنشط لتحقيق وقف للنار في غزة كما في لبنان ليكون ذلك إنجازاً يوظّف لمصلحة المرشحة هاريس، وإمّا أنّها لا ترى مصلحة أميركية في التورط في حرب كبرى في المنطقة يعرف الجميع كيف تبدأ لكنّهم لا يعرفون كيف تنتهي.

وفي أي حال، فإنّ بايدن، وجد "أن الهجوم الإسرائيلي على إيران ضرب أهدافاً عسكرية فقط على ما يبدو"، مضيفاً أنّه يأمل أن يمثّل هذا الهجوم "نهاية التوتر المتبادل مع إيران".

الفراغ الرئاسي حتى سنة 2026

لا حلّ للحرب

ومع وصول هوكستين المنتظر إلى إسرائيل للبحث في إمكان وقف إطلاق النار على الجبهة اللبنانية والعمل على تنفيذ القرار الدولي 1701 في ضوء محادثاته الأخيرة في بيروت، من المرجح أن يزور لبنان إذا لمس تجاوباً إسرائيلياً مع الأفكار المطروحة للحل.

وفي هذا السياق، يقول مصدر مطلع على الموقف الأميركي أنّ لا حلّ للحرب الإسرائيلية على لبنان في الأفق، على رغم الحراك الديبلوماسي لبلينكن وهوكستين، وأنّ الوضع باق على ما هو عليه نتيجة استمرار بنيامين نتنياهو في الإعلان عن أنّ إسرائيل تخوض حرباً وجودية. وحسب هذا المصدر، فإنّ إسرائيل "لا تثق بالدولة اللبنانية ولا بالجيش اللبناني ولا بقوات حفظ السلام الدولية (اليونيفيل) فضلاً عن أنّها لا تثق بهوكستين وتعتبره مفاوضاً بالنيابة عن لبنان وليس وسيطاً، بل إنّ بعض المسؤولين الإسرائيليين يسخرون منهم ويعتبرونه "مفاوضاً عن حزب الله "!

ويرجّح المصدر أن لا يستقبل نتنياهو هوكستين، ويقول: "نحن أمام حرب استنزاف طويلة سيتعاظم معها حجم النزوح في لبنان كما في إسرائيل، علماً أنّ النزوح اللبناني كان أحد أهداف إسرائيل من الحرب ليشكّل ضغطاً على الدولة وعلى حزب الله وكلّ شيء".

ويتخوّف المصدر من حصول قلاقل داخلية نتيجة هذا النزوح وضغوطه، وكذلك نتيجة الانقسام السياسي الداخلي حول الحرب وحول القضايا السياسية الخلافية، مستبعداً أن يتم اتفاق بين الفرقاء السياسيين على انتخاب رئيس للجمهورية في هذه المرحلة، ومتوقعاً أن يستمرّ الفراغ الرئاسي حتى سنة 2026 إذ تنتهي ولاية مجلس النواب الحالي بتمديد المجلس لنفسه أو بانتخاب مجلس جديد يفرز توازنات سياسية جديدة ويمكن في ضوئها انتخاب رئيس جمهورية جديد.

ويتوقّع المصدر أن تكون ولاية رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أطول ولاية رئيس حكومة منذ استقلال لبنان عن الانتداب الفرنسي عام 1943. ويؤكّد أن واشنطن لا يمكنها التوصّل حالياً إلى وقف لإطلاق النار في لبنان، خصوصاً في هذه الأيام القليلة الفاصلة عن موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية المقررة في 5 تشرين الثاني المقبل، مرجحاً فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب على المرشحة الديموقراطية كملا هاريس مشفوعاً بسيطرة الحزب الجمهوري على الغالبية الساحقة في مجلسي النواب والشيوخ الأميركيين بحيث يصل إلى البيت الأبيض وكأنّه "الحاكم المطلق"، أو "الحاكم بأمر الله" إذا جاز التعبير.

وطبعاً، يضيف المصدر، إذا فاز ترامب فسيكون "انتصاراً" لنتنياهو الذي سيمضي في مشاريعه الحربية وسيعملان معا لإنجاز "صفقة القرن" التي كانا بدأا بها معاً في الولاية الترامبية السابقة (بين عامي 2017 و2021) بـ"اتفاقات ابراهام" بحيث سيسعيان إلى استئناف التطبيع مع دول عربية جديدة، ليكون نصيب الفلسطينيين من هذه الصفقة "تحسين حياتهم" ولا تكون لهم دولة في إطار ما سمّي "حل الدولتين" بموجب اتفاقات أوسلو على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، اللذين سيصبحان جزءاً من "إسرائيل الكبرى" التي يجهد نتنياهو لإقامتها "بين النهر والبحر".