تتعاظم يوماً بعد آخر الخسائر الاقتصادية التي يمنى بها الاقتصاد اللبناني جراء الحرب المستمرة. الأرقام النهائية لن تظهر بدقّة قبل توقّف آلة القتل والتهجير والتدمير، ولكنّها أصبحت مليارات كثيرة من الدولارات في أحسن التقديرات. خيوط الشمس الأولى المرسلة مع بداية كل نهار تكشف أهوال الخراب الذي أحدثه الظلام في الليلة السابقة. مبانٍ مسوّاة بالارض. منقذون يلملمون الضحايا والأشلاء. بشر يهيمون على وجوههم، فارغي الأيدي. مؤسسات مقفلة، وأخرى تئنّ من وطأة الجمود، تعدّ ما بقي لها من أيام قبل الرحيل.

الخسائر بالأرقام

المشهد السريالي الذي لم نعد نعلم هل نحن نحيا فيه، أو هو يحيا فين، كلّف الاقتصاد إلى الأمس القريب "أكثر من 20 مليار دولار"، بحسب مجموعة العمل المستقلّة من أجل لبنان. وقد فنّدت "المجموعة" في "ورقة موقف حول التداعيات الاقتصادية والاجتماعية للحرب الإسرائيلية على لبنان" الخسائر بحسب القطاعات، وأبرزها:

- توقّف النشاط الاقتصادي في معظم القطاعات في منطقتي الجنوب والبقاع اللتين تمثلان ثلث سكان لبنان وقوة العمل.

- تدمير وتعطيل 50 ألف مؤسسة تجارية مستقلة تمثل 60 في المئة من مجموع الشركات.

- تعطّل تعليم 1.5 مليون طالب من جميع المستويات نتيجة استعمال قرابة نصف المدارس الحكومية ملاجئ جماعية.

- خسارة الاقتصاد شهرياً 50 مليون دولار من فقدان التعليم، وهذا يعني تكلفة سنوية تقارب 600 مليون دولار.

- تكلفة إيواء ودواء وطعام مقدارها نحو ملياري دولار.

- تضرّر القطاع الزراعي بشدة وتقدير الخسائر رسمياً بـ 2.5 مليار دولار.

- توقف القطاع السياحي الذي يشكل 30 في المئة من الناتج المحلي ويشغل 369 ألف عامل. وخسائره حوالى 1.8 مليار دولار.

- انكماش القطاع الصناعي وصادراته حوالى النصف بين تشرين الأول 2023 وأيلول 2024، وهذا يعني خسارة ملياري دولار.

- تكلفة شهرية تقدّر بنحو مليار دولار جراء تهديم المباني والمساكن والمنشآت، وبكلفة إجمالية وصلت إلى 5 مليارات دولار.

- توقف نحو مليون نازح عن العمل كبّد الاقتصاد خسائر إضافية تراوح بين 500 مليون دولار ومليار.

حجم الخسائر من الناتج

أرقام الخسائر المقدّرة من المجموعة تمثل 100 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، إذا اعتمدنا على أرقام البنك الدولي الذي يقدّر الناتج بـ 20 مليار دولار، و71.5 في المئة إذا اعتمدنا تقدير وزارة المال للناتج بـ 28 مليار دولار، وهو الرقم الذي يتقاطع بالمناسبة مع رقم "معهد التمويل الدولي". في الحالتين نسبة الخسائر كبيرة، إلّا أنّها قد تشهد تراجعاً ملحوظاً لدى اعتماد منهجية قياس مختلفة وتصويب الأرقام الصادرة عن الوزارات التي تكبّر حجم الخسائر لزيادة المساعدات. على سبيل المثال، فإنّ تقدير خسارة القطاع الزراعي بـ 2.5 مليار دولار مبالغ فيها، لأنّ نسبة مساهمة القطاع الزراعي في الناتج لا تتجاوز على صعيد كلّ لبنان 6 في المئة، وقد بلغت قيمتها في العام 2024، بحسب الإحصاء المركزي، 3120 مليار ليرة. والقطاع الزراعي المتضرر في الجنوب وبعض البقاع الجنوبي والشرقي لا يشكّل أكثر من 30 في المئة من مجمل الإنتاج العام. وإذا افترضنا توقف الزراعة في هذه المناطق بشكل كلّي، فإنّ الكلفة ستصل إلى 630 مليون دولار حدّاً أقصى. كما أنّ افتراض توقّف مليون نازح عن العمل يحمل نوعاً من المبالغة. إذا افترضنا أنّ أكثر من نصف النازحين من الأطفال، فإنّ نسبة البطالة في لبنان في أوساط الشباب كانت تتجاوز قبل الحرب 40 في المئة. والأهم أنّ احتساب التراجع في الناتج إلى جانب خسائر القطاعات الخدماتية والانتاجية يضاعف الخسائر.

بالتزامن مع دوران عدّاد الخسائر، عُقد في باريس المؤتمر الدولي للدعم السياسي والإنساني للبنان

سيناريوان أحلاهما مر

إلى اليوم، لا يزال حبل الخسائر موضوعاً على جرار الحرب المفتوحة. وقياساً على وحشية الاعتداءات، فإنّ الأرقام ستزداد باطراد إلى نهاية الحرب. وبحسب معهد التمويل الدولي، هناك سيناريوان:

الأول، استمرار الحرب إلى منتصف العام 2025، إذ سيتقلّص الاقتصاد بنسبة 10 بالمئة مدفوعاً بتراجع الاستهلاك نتيجة مغادرة 12 في المئة من السكان. وينخفض احتياطي العملة الصعبة إلى 7 مليارات دولار. وسينخفض الناتج وفقاً لهذا السيناريو إلى 26 مليار دولار من 28 ملياراً في العام 2024. وسيتراجع عدد السكان من 6 ملايين إلى 5.3 مليون. وستشكّل نسبة الدين من الناتج 168 في المئة. في المقابل سيتراجع التضخم من 44.1 في المئة إلى 24.8 في المئة. وسيتراجع العجز في الحساب الجاري من (-12.5%) إلى (-10.8%).

السيناريو الثاني، سيستمر القتال في لبنان طوال عام 2025 تقريباً. فينكمش النمو بنسبة 15 في المئة على الأقلّ، ويتراجع الناتج إلى 22 مليار دولار. وينخفض عدد السكان إلى 4.8 مليون نسمة. وتتراجع الاحتياطيات إلى 3 مليارات دولار. وترتفع نسبة الدين إلى الناتج إلى 198 بالمئة. ويرتفع مجدّداً العجز في الحساب الجاري إلى (-18.2%). ويبلغ التضخم 30 في المئة.

المؤتمر الدولي لدعم لبنان

بالتزامن مع دوران عدّاد الخسائر، عُقد في باريس المؤتمر الدولي للدعم السياسي والإنساني للبنان، الذي أطلقه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. حمل الوفد الرسمي أرقام الخسائر في مختلف القطاعات انطلاقاً من تقدير الوزارات المعنية للخسائر، ولا سيما الشؤون الاجتماعية، والطاقة، والاتصالات، والداخلية، والدفاع، والزراعة، والصناعة... وغيرها. ويطالب لبنان بحزمة مساعدات لا تقلّ عن ملياري دولار، يخصص نصفها لتمويل القطاعات الأمنية، والنصف الآخر لمواجهة تحديات الإغاثة والنزوح. وعلى الرّغم من ضآلة المبلغ المطلوب مقارنة بالخسائر التي تضاف أساساً إلى خسائر الانهيار وكورونا وانفجار المرفأ، فإنّ الآمال بتدفّق المساعدات من المجتمع الدولي قليلة. وستقتصر في أغلب الظنّ على التقديمات العينية حدّاً أدنى. نتيجة استمرار الحرب أولاً، وتعقيدات المشهد السياسي ثانياً، وفقدان الدول الثقة بالنظام السياسي اللبناني ثالثاً.

ككلّ مرّة، يقابل شلّال الخسائر نتيجة الحروب والكوارث بقطّارة المساعدات. وبقدر ما يدعو هذا الأمر إلى الإحباط، يجب أن يشكّل حافزاً للانتقال من الاستعطاء إلى الاعتماد على الذات. فلبنان يملك من المقدرات والثروات ما يكفيه لتعويض جميع الأضرار بشرط تحقيق الإصلاحات واستعادة ما نهب من أموال وخيرات.