الانتخابات الأميركية الشهر المقبل نقطة تحول حاسمة بسبب تأثيرها في السياسة الخارجية وإعطائها وجهات جديدة. وتقدم رؤيتا المرشحَين الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترامب والديمقراطية نائبة الرئيس الحالية كملا هاريس المتباينتان فرصة كبيرة لإعادة رسم دور أميركا في العالم. كيف يمكن أن يؤثر نهج كل مرشح في السياسة الخارجية، خصوصاً التحالفات، والانخراط العسكري، والتجارة، والتحديات العالمية؟
سمات نهج ترامب
بتصفّح ما يتعلق بالسياسة الخارجية المنشور على الموقع الرسمي لحملة ترامب وفانس يمكن استشفاف عودة ترامب إلى نهج انعزالي تتصدّره سياسة "أميركا أولاً" التي تعطي المصالح الأميركية الأولوية على الالتزامات الدولية. يعكس هذا النهج شعورًا شعبيًا أوسع بين الناخبين الذين أصبحوا أكثر تشكيكًا في الارتباطات الخارجية. يدعو ترامب إلى التركيز على القضايا الداخلية مثل البنية التحتية والرعاية الصحية وخلق فرص العمل بدلاً من الانخراط في قضايا دولية لا تحقق فوائد فورية للأميركيين.
في الدبلوماسية يركّز نهج ترامب على وجوب استناد التحالفات إلى مصالح مالية متبادلة. فهو في ولايته الأولى انتقد دولا أعضاء في حلف شمال الأطلسي لعدم وفائها بالتزاماتها في الإنفاق الدفاعي، وكان صريحا معهم بالقول إنّ للدعم العسكري الأميركي ثمناً ويجب أن يكون مشروطًا بالمساهمات المالية من هذه الدول. وعلى هذا الأساس يستعد عدد من دول الحلف لاحتمال فوز ترامب وتشدده في الشروط وإعادة تقييم التحالفات والشراكات التقليدية القائمة أصلاً على الاعتراف بريادة الولايات المتحدة، وعلى أن الأمن الجماعي هو مسؤولية مشتركة.
السمة الثالثة التي ستعود إلى الظهور هي التركيز على العلاقات الشخصية ومدى تقارب الشخصيات أو تنافرها في تحديد وجهة السياسة تجاه بلد أو قضية ما. وعليه يبقى الغموض يلفّ قراراته التي قد تفاجئ أقرب المقرّبين إليه. فقد يكون مستعداً للتفاعل مع الخصوم مثل رئيسَي كوريا الشمالية وروسيا بدون التأكّد مسبقاً من تحقيق نتائج، وفي المقابل يمكن أن يقوّض تحالفات تقليدية مزمنة. هكذا مثلاً، تحدث عن تلقيه "رسائل غرام" من كيم يونع أون، وعن أنه يصدّق بوتن حين قال له إن روسيا لم تتدخل في انتخابات 2016، فيما ألمح إلى أنه قد يسحب بلاده من حلف شمال الأطلسي إذا لم تزد الدول الأوروبية إنفاقها الدفاعي.
التعددية في مقاربة هاريس
على النقيض من ميول ترامب الانعزالية، من المرجّح أن تدعو هاريس إلى العودة إلى التعددية وتعزيز العلاقات الدولية. يتماشى نهجها مع تركيز إدارة الرئيس بايدن على إعادة بناء العلاقات مع الحلفاء، وبخاصة في أوروبا وآسيا. وتشدّد هاريس على أهمية العمل الجماعي في مواجهة التحديات العالمية، بما في ذلك التهديدات الأمنية وتلك المتأتية من تغيّر المناخ.
من المتوقع أن تولي سياسة هاريس الخارجية تعزيز حقوق الإنسان والديمقراطية أهمّيّة خاصّة، وهو ما يختلف مع توجّه ترامب الذي يرى المصالح أولاً. قد تسعى إلى إعادة الانخراط مع المنظمات الدولية والمعاهدات التي تعزز هذه القيم، بما يعزّز تالياً دور أميركا كمدافع عن الديمقراطية في العالم.
ومن المرجح أن تتناول هاريس القضايا العالمية الملحّة مثل تغيّر المناخ والأزمات الصحية العامة بأكثر فاعلية مما قد يفعله ترامب. وستضع إدارتها العودة إلى الاتفاقيات الدولية مثل اتفاق باريس للمناخ وتعزيز التعاون مع منظمة الصحة العالمية ومثيلاتها في صدارة أواوياتها. وهي بذلك تهدف إلى تعزيز الوضع القيادي لواشنطن في مواجهة التحديات العابرة للحدود التي تتطلب حلولاً تعاونية.
المجالات الرئيسية للتغيير المحتمل
من أولى إشارات التغيير التحوّل عن سياسات التدخل العسكري الذي كان دخوله سهلاَ لكن تبيّن لأكثر من إدارة صعوبة الخروج منه. وأمثلة التدخل العسكري المطوّل في دول مثل أفغانستان والعراق، وامتدادا سوريا بادية للعيان. ترامب يميل إلى سحب القوات والتركيز على مكافحة الإرهاب والتخلي عن جهود بناء الأمم في الخارج. وهذا نهج من المرجّح أن تعتمده هاريس فتخفض الانتشار العسكري في مناطق النزاع، مفسحة في المجال للحلول الدبلوماسية أو الإجراءات العسكرية المحدودة عند الضرورة.
من المرجح أن يدعم كلا المرشحين زيادة الإنفاق الدفاعي بسبب التهديدات الجيوسياسية المتزايدة من دول مثل الصين وروسيا. ومع ذلك، يختلف الأسلوبان: ففيما قد يركز ترامب على تعزيز القدرات العسكرية لأغراض الردع، قد تدعو هاريس إلى استراتيجية أكثر شمولاً تشمل الجهود الدبلوماسية إلى جانب الاستعداد العسكري.
أما في السياسة التجارية فيتواجه مبدأا الحمائية وحرية التجارة. تميزت سياسة ترامب التجارية بالحمائية، بما في ذلك فرض الرسوم الجمركية على الواردات من الصين ودول أخرى كالرسوم على النبيذ الفرنسي، بهدف حماية الصناعات الأميركية. وأدت هذه الإجراءات إلى عواقب اقتصادية كبيرة داخل الولايات المتحدة وخارجها. إذا انتخب ترامب فمن المحتمل أن يواصل أو يصعّد التدابير الحمائية. على النقيض من ذلك، من المتوقع أن تدعو هاريس إلى سياسات تجارية أكثر انفتاحا تركز على ممارسات التجارة العادلة مع معالجة حقوق العمال والمعايير البيئية عالميا. وقد تسعى أيضاً إلى إعادة تأسيس الاتفاقيات التجارية التي تعزز التعاون بدلاً من المنافسة.
المجال الثالث هو الصين التي يراها المرشحان منافسا استراتيجيا يطرح تحديات كبيرة للمصالح الأميركية. يتّفق المرشحان على تبني موقف أكثر صرامة تجاه الصين في ما يتعلق بممارسات التجارة وانتهاكات حقوق الإنسان والأنشطة العسكرية في بحر الصين الجنوبي. ومع ذلك، قد تختلف طرقهما: فقد يتبنى ترامب استمرار فرض الرسوم الجمركية ويرفع سقف الشروط. أما هاريس فقد تتّبع استراتيجية أكثر دقة تشمل بناء التحالفات لمواجهة تأثير الصين جماعيّاً.
مجال تغيير آخر هو الصحة العالمية وتغيّر المناخ. سحب ترامب بلده من عدة اتفاقيات دولية تتعلق بتغير المناخ ومبادرات الصحة العامة، فقلّ تأثير واشنطن في الهياكل الحكومية العالمية التي تعالج هذه القضايا الملحّة. من المرجّح أن تعود هاريس إلى الانخراط مع المنظمات الدولية مثل منظمة الصحة العالمية وتؤكد الالتزام مجددًا باتفاقات المناخ العالمية. وستركّز إدارتها على الاستجابة المنسقة للأوبئة والتحديات المتعلقة بالمناخ وممارسات التنمية المستدامة عالميًا.
تغيير أم أبقاء الوضع القائم؟
السياسة الخارجية الأميركية مؤسسة كبيرة تشارك في رسمها وزارة الخارجية ووزارة الدفاع ووكالات الاستخبارات المختلفة وينسّقها مجلس الأمن القومي بتوجيهات من الرئيس. وتؤثّر فيها مؤسسات أخرى كاللجان النيابية للسياسة الخارجية والدفاع والاستخبارات والاعتمادات المالية في مجلسَي النواب والشيوخ ومجموعات الضغط التي تدافع عن مصالح مختلفة غالبا ما تكون متعارضة. ومن الأسهل صوغ سياسة خارجية تكمل سياسات سابقة أو تعدّلها، لكن من الصعب تحقيقها خصوصا إذا واجهت معارضة من أي من المؤسسات التي ترى في التعديل انتقاصا من دورها. ألم يتأخر إرسال مساعدات عسكرية إلى أوكرانيا وإسرائيل بضعة أشهر لأن الجمهوريين في الكونغرس كانوا يريدون شيئا والديمقراطيين شيئا آخر وهذا ما أخّر إصدار القانون؟ كم مرة فاجأ ترامب مستشاريه ومعاونيه بقرار اتخذه في آخر دقيقة لقطع الطريق على معارضته وتقويضه؟
هكذا يتبيّن أن تحقيق الوعود الانتخابية صعب لأن التغيير قد يكون أصعب.