بكل واقعية، ومن خلال متابعة الوقائع بهدوءٍ وتأنٍّ ودقّةٍ، يجوز القول: "إنّ من استعجل "استثمار" نتائج الحرب الإسرائيلية على لبنان، والبناء عليها أملًا في أن تؤدّي إلى تغيير توازنات القوى القائمة في المنطقة، كذلك فرض واقعٍ سياسيٍ جديدٍ في الداخل اللبناني، أخطأ في الحسابات، لا بل خاب أمله، وتبدّدت أوهامه، بعد سقوط مراهنته في الميدان على "نصر إسرائيل"، بحسب ما أثبتت الوقائع الميدانية، خصوصًا في المدة الأخيرة".
وبقراءةٍ موضوعيةٍ، لقد سقطت مراهنة المحور الغربي على نجاح "إسرائيل" بضرب البنية التنظيمية لحزب الله، تحديدًا جناحه العسكري. فمن الواضح أنّ "الحكومة الإسرائيلية" ومن يقف خلفها، ومن يراهن على "نصرها" في الداخل، شعروا "بنشوة النصر" بعد اغتيال عددٍ من القادة في "الحزب"، وفي مقدّمهم أمينه العام السيد حسن نصر الله. لا ريب في أن تمكّن "إسرائيل" من قتل هؤلاء القادة شكّل ضربةً موجعةً لحزب الله، ولكن لم تكن ضربةً قاضيةً، كما توهّم هؤلاء المنتشون. والدليل هو حقيقة الوضع الميداني. ومن يتابع هذا الوضع من موقع المراقب المحايد، يلتمس أنّ البنية العسكرية لحزب الله منفصلة بأكملها عن "الجسم السياسي للحزب"، بدليل أنّه في وقتٍ سريعٍ، استطاع لملمة جراحه بعد فقده أمينه العام، وبعض قادته، ونجح في توجيه الضربات الصاروخية "إلى العمق الإسرائيلي"، كالضربة الموجعة التي استهدف بها أحد مقارّ لواء غولاني في حيفا، بالإضافة إلى ضربه أهدافًا داخل "تل أبيب"، على سبيل المثال لا الحصر.
سقطت مراهنة المحور الغربي على نجاح "إسرائيل" بضرب البنية التنظيمية لحزب الله
إذًا، لقد فشلت "إسرائيل" والمحور الغربي الداعم من خلال حربها على لبنان، في تحويل حزب الله إلى حزبٍ سياسيٍ، للحدّ من دوره في المنطقة، وتأثيره في السياسة اللبنانية الداخلية، هذا من ناحية. ومن ناحيةٍ أخرى، لا ريب في أنّ دخول إيران في المواجهة العسكرية مع "إسرائيل"، بعد استهدافها بمئات الصواريخ في الأسابيع القليلة الماضية، أسهم في تثبيت توازنات القوى القائمة في المنطقة، خصوصًا في جنوب لبنان. تلا ذلك تحرّك دبلوماسي إيراني نشط تمثل في جولةٍ وزير الخارجية الإيرانية عباس عراقجي على "جارتي إيران"، المملكة العربية السعودية ودولة قطر، في مسعى من الجمهورية الإسلامية لتخفيف حدة التوتّر في المنطقة، ومحاولة طمأنتهما في ضوء التهديدات المتبادلة بين إيران و"إسرائيل"، والتي قد تتطور إلى نشوب حربٍ بين الجانبين، على اعتبار أنّ دول الخليج ماضية في محاولة رأب الصدع داخل البيت العربي الواحد، وفي مقدّمها السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة اللتان أعادتا علاقاتهما الدبلوماسية مع سورية. أضف إلى ذلك، سعيهما وسواهما من دول الخليج، إلى تخفيف حدة التوتّر في المنطقة، من خلال تحسين العلاقات مع إيران، لما لها من نفوذٍ سياسيٍ ودور فاعلٍ على مستوى المنطقة والعالم الإسلامي. فالخليج عمومًا، وعلى رأسه المملكة العربية السعودية، ماضٍ في مسيرة التطور والنهوض الاقتصادي والعمراني، والانفتاح على الشرق والغرب، وهذا ما يتعارض كلّيًا مع الحروب والصراعات.
وما يؤكّد أيضًا ثبات التوازنات الراهنة في لبنان والمنطقة على حالها وعدم السماح بالمسّ بها، هو الموقف الروسي- الصيني المشترك من الحرب الإسرائيلية على لبنان. فقد قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، للصحافيين في الأيام الفائتة: "بحسب تقويمنا، فإنّ حزب الله، بما في ذلك الجناح العسكري، لم يفقد تسلسل قيادته، ويبدو أنه لم يزل محافظًا على التنظيم".
وأضافت زاخاروفا أنّ "الغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة وبريطانيا، يذكي نيران الصراع في الشرق الأوسط وينافق عبر دعمه "إسرائيل" التي تتسبّب في خسائر كبيرة في صفوف المدنيين في لبنان". وذلك في "محاولةٍ لإشعال فتيل صراع مسلّح على مستوى الشرق الأوسط"، بحسب تأكيد الخارجية الروسية.
وهذا ما يكشف بوضوح أنّ الهدف الحقيقي لهذه الحرب، هو تغيير التوازنات في المنطقة، وهو ما عبّر عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عندما قال: "نحن في صدد ولادة شرق أوسطٍ جديدٍ"، الأمر الذي يتهدّد حضور روسيا ودورها في المنطقة. لذا من البديهي أن تدافع عن وجودها في شرق المتوسط، من خلال الإسهام في إسقاط كلّ محاولات المسّ بالتوازنات الراهنة.
وفي السياق عينه أيضًا، يأتي الموقف الصيني من الحرب المذكورة. فقد أكّدت الصين معارضتها للتوغل البري "الإسرائيلي" في لبنان، مشدّدةً على "رفضها أيّ أعمالٍ تؤدّي إلى مزيد من التصعيد على المستوى الإقليمي". وهذا ما يؤشر إلى أنّ هذه الحرب انعكاس لصراعٍ نفوذٍ دوليٍ تدور رحاه في المنطقة، وبالتالي فإنّ محور روسيا- الصين- إيران لن يسمح بفرض شروط المحور الغربي عليه، كما يحلو له، عقب انتهاء هذه الحرب، مثلما يتوهّم البعض.