لعلّ أسوأ أنواع الاستغلال هو ذلك المغلّف بقشرة من الحرص والاهتمام. فبحجّة المحافظة على الحدّ الأدنى من المنهج التعليمي، فرضت بعض المدارس الخاصة البعيدة عن دائرة الحرب، التعليم عن بعد. وراحت تمارس باسم "المطلب الأسمى" الضغط على قلّة من التلامذة والأساتذة "العزّل" إلاّ من الخوف والقلق، للانضباط وراء شاشات لا تفارقها الأخبار العاجلة. فإن كان الأقدمون لا يتورّعون عن "قصد الصين لنيل العلم"، أنجافيه في القرن الحادي والعشرين مع ما سخّرته لنا التكنولوجيا من تسهيلات؟!
في الشكل، تحرص مدارس عدة على مصلحة طلّابها، ليس غير. لا يمكن التوسّع أكثر في الشرح. أمّا في المضمون فهي لا تضرب بفضائل العلم عرض الحائط، لأنّها لم تتعلّم من الخطأ السابق، أيام جائحة كورونا فحسب، إنّما تخالف الدستور الذي يمثّل القانون الأسمى الذي ارتضاه اللبنانيون لأنفسهم. فهي تقدّم العلم لجزء، وتُحرم منه الأكثرية، ولو أنّها تقطن الدور التعليمية. وتميز بين تلامذتها وتلامذة مدارس رسمية، كلّ ذنبهم أنّ المنظومة التي بنت ورعت التعليم الخاص المشوّه، أفقرتهم وذلّتهم. ولا تأخذ في الاعتبار غياب الكهرباء وتقنين أصحاب المولّدات وضعف شبكة الاتصالات، هذا إن افترضنا أنّها لن تقطع كلّياً مع بدء إسرائيل استهداف البنى التحتية كما حدث في العام 2006. فلماذا، إذاً، هذا الاندفاع إلى التعليم عن بعد؟ وأيّ مصلحة ترتجيها المدارس غير المحافظة على تسديد الأهالي الأقساط المدرسية، كي لا تضطر إلى دفع مستحقّات الأساتذة مما راكمته من أرباح على مدى السنوات الطوال؟
يثبت لبنان الرسمي أنّ معالجة الازمات تكون أسوأ من الأزمات نفسها...
المصلحة المادية
"تحصيل الأقساط لضمان استمرار المدارس وتسديد الرواتب المبنية على اتفاقات جديدة مع أساتذتها، جزء من التبرير للمطالبة بالتعليم عن بعد أو حضورياً"، بحسب الباحث التربوي نعمه نعمه. أمّا الجزء الثاني فيتمثّل في محاولة المدارس الكاثوليكية التي تعدّ الأوسع انتشاراً وتمثّل الثقل الأساسي في جبل لبنان، فصل نفسها عن بقية المدارس والعودة إلى التعليم حضورياً. ففي محافظة جبل لبنان مثلاً، يمثّل التلامذة الذي ينتسبون إلى المدارس الخاصة ومنها بشكك أساسي الكاثوليكية، النسبة الكبرى مقارنة بالمدارس الرسمية المقفلة. فتضم المدارس الخاصة نحو 200 ألف تلميذ مقارنة بـ20 إلى 25 ألفاً في المدارس الرسمية، أي ما نسبته 10 في المئة تقريباً. وهو ما يحفز هذه المدارس على المطالبة بالتعليم حضورياً لأسباب مادية واجتماعية وحتّى سياسية"، بحسب نعمه. "إلّا أنّ هذا الواقع لا يمكن أن يستقيم في ظلّ هذه الظروف، ليس لكونه يولّد حساسية مع المحافظات الخمس المتبقية (النبطية، الجنوب، بيروت، البقاع، بعلبك الهرمل) التي تتعرّض للقصف والتهجير، إنّما لأن تلامذة وأساتذة هذه المدارس يتكوّنون بجزء كبير منهم من النازحين، والذين لا يملكون القدرة على العودة أو حتى ممارسة التعلّم والتعليم. فنصف تلامذة مدارس بعبدا وغيرها من الأقضية هم من الضاحية الجنوبية. وهناك جزء كبير من الـ 18 ألف أستاذ في التعليم الخاص ليسوا في وضع يسمح لهم بممارسة واجبهم، ولا حتى عن بعد. إذ كيف لنازح إلى مدرسة أو بيت مكتظ بالعائلات أن يقوم بواجبه التعليمي على النحو المطلوب؟".
لا مقوّمات لوجتسية
الاعتراض على التعليم عن بعد أو حتى حضوريا ًمن الناحية المبدئية المتصلة بالمساواة والعدالة والمحافظة على وحدة الكيان الهش، تقابلها معوّقات تقنية ومادية هائلة. فلو سلّمنا جدلاً أنّ لكلّ من الأولاد في عائلة متوسطة مكوّنة من خمسة أفراد، جهازاً يستطيع التواصل عبره عن بعد، فليس ثمة كهرباء ولا انترنت. إذ تشهد خدمة "أوجيرو"، تقطعاً في معظم المناطق، ولا سيما الجبلية منها. أمّا الانتقال إلى 4G، فهو مكلف بما لا يقاس ولا قدرة لمعظم العائلات على تحمّله. "وإن كان لا بد من التعليم عن بعد، فيجب أن يقتصر على صفوف الشهادات الثانوية"، بحسب رئيسة اتحاد لجان الأهل في المدارس الخاصة لمى الطويل. "بشرط توفر الوسائل التقنية من أجهزة وكهرباء وانترنت. أمّا في ما خص بقية المراحل، فما زلنا نعاني من نتائج التعليم عن بعد والتراجع بالمستوى التعليمي الذي أخذ منحى أكثر خطورة منذ بدء الانهيار الاقتصادي المتزامن مع جائحة كورونا. ولا يمكن أن نقبل بإعادة التجربة المرة نفسها التي لم نشفَ منها إلى اليوم". وإذا قررت المدارس المضيّ قدماً في التعليم عن بعد "فيجب عليها إعادة النظر في الأقساط وخفضها بمقدار النصف"، بحسب الطويل ."خصوصاً أنّها ستوفر من التكاليف التشغيلية من كهرباء، وماء، ومازوت، ومحابر، وصيانة وغيرها". مع العلم أنّ المدارس نفسها اعتبرت أنّ الكلفة التشغيلية أصبحت كبيرة جداً وتتجاوز الـ 35 في المئة، لأنّها تُسدد بالدولار النقدي، على عكس الرواتب والأجور التي يسدّد جزء منها بالدولار والجزء المتبقي مع التعويضات بالليرة.
الغائب الأكبر عن كلّ هذه الفوضى اللاتربوية هي وزارة التربية والتعليم العالي، التي آلت على نفسها لعب دور المتفرج أو غير المتدخل في أحسن الأحوال. قد يسأل معترض، وماذا باستطاعتها أن تفعل؟ يجيب نعمه: "الكثير. في البداية تقييم خطة الطوارئ التي وضعتها الحكومة وتعديلها، إذ فتحت بموجبها المدارس الرسمية للإيواء. ولم تلحظ بأيّ جانب من جوانبها تخطيطاً تربوياً طارئاً يتماشى مع توسع استمرار الحرب". سواء بشكلها الضيق الذي استمر حتى نهاية تموز، أو الموسع كما حدث على نحو عنيف منذ منتصف أيلول. "وباستطاعتها أن تعطي نحو 40 ألف أستاذ مهمات تنظيمية ولوجستية لإدارة مراكز الإيواء عبر لجان، خصوصاً أنها فتحت مدارسهم للنازحين"، يضيف نعمه. "وبدلاً من العودة إلى التعليم بشكل تمييزي بين المناطق والتلاميذ، على وزارة التربية أن تأخذ قراراً يقضي بالانتقال من العام الدراسي الحالي، من عام أكاديمي عادي إلى عام خاص. خصوصاً إذا ما توسعت الحرب وطالت. فالتلامذة بحاجة إلى دعم نفسي اجتماعي متخصص سواء كانوا في الخاص أو في الرسمي. وإقامة أنشطة لهم تربوية ودعم نفسي لتخفيف الضغط وعدم إضاعة العام هباءً".
مرة جديدة، يثبت لبنان الرسمي أنّ معالجة الازمات تكون أسوأ من الأزمات نفسها. هذا ما حصل عقب الانهيار، وهذا ما يُتوقع أن يحصل بعد انتهاء الحرب.