قلّما كانت السياسة الخارجية هي العامل المؤثّر في حسم هوية الفائز بالانتخابات الرئاسية الأميركية. وعلى غير جاري العادة، تطرح القضايا الدولية نفسها بقوّة على حملتي المرشحة الديموقراطية كَمَلا هاريس والمرشح الجمهوري دونالد ترامب، من الشرق الأوسط إلى أوكرانيا وروسيا والصين والناتو.
تحظى انتخابات الخامس من تشرين الثاني، باهتمام لم تحظَ به انتخابات أميركية أخرى في التاريخ. حلفاء أميركا وخصومها تشخص أنظارهم إلى ما ستسفر عنه صناديق الاقتراع، في دولة آلت على نفسها لعب دور شرطي العالم والتدخّل في مصائر الشعوب على مدى أكثر من قرن من الزمن.
وأقحم الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، نفسيهما في صلب الحملات الانتخابية الأميركية، الأول لا يخفي تفضيله فوز هاريس بينما يفضّل الثاني ترامب، لأسباب تتعلّق بالأجندة الخاصة بالرجلين.
التقى زيلينسكي الأسبوع الماضي، بايدن في البيت الأبيض وقدّم إليه "خطّة النصر"، التي أعدّها لتحويل مجرى الحرب لمصلحة أوكرانيا وإلحاق الهزيمة بروسيا. وتتطلّب الخطّة دعماً أميركياً إضافياً إلى الـ175 مليار دولار التي قدّمتها إدارة بايدن على مدى 31 شهراً من الحرب. ويقع في صلب الخطّة الحصول على إذن من واشنطن لاستخدام صواريخ "أتاكامز" البعيدة المدى الأميركية الصنع لتوجيه ضربات إلى العمق الروسي. والتقى زيلينسكي ترامب أيضاً.
ولا يزال بايدن متردّداً في منح زيلينسكي الضوء الأخضر. وذلك عائد إلى سببين: الأول هناك خوف من رد الفعل الروسي على إجراء كهذا، كأن تعمد روسيا إلى تنفيذ تهديدها بتزويد القوى المعادية للولايات المتحدة في العالم صواريخ متطورة. وأول ما يتبادر إلى الأذهان هنا، إيران والحوثيون وكوريا الشمالية. والسبب الثاني يعود إلى أنّ أميركا لا تملك أعداداً كبيرة من هذه الصواريخ، وهذا ما سيعرّض مخزونها للنقص، في وقت ثمّة حاجة إلى التركيز على جبهات ساخنة أخرى في العالم.
وأثار زيلينسكي امتعاض الجمهوريين، بعدما قال لمجلة "النيويوركر" الأسبوع الماضي، إنّ ترامب ومرشّحه لمنصب نائب الرئيس جيه. دي. فانس لا يفهمان تعقيدات الحرب الدائرة في بلاده.
وردّ ترامب، واصفاً زيلينسكي بأنّه "البائع الأفضل في العالم"، لأنّه كل مرة يزور الولايات المتحدة يعود ومعه 60 مليار دولار، في إشارة إلى المساعدة الأميركية الأخيرة التي أقرّها الكونغرس في نيسان. وأكّد المرشّح الجمهوري في تجمّع انتخابي بولاية بنسلفانيا، أنّ سخاء بايدن يضرّ بجيوب الأميركيين. وأشار إلى أنّ زيلينسكي يريد فوز هاريس كي تستمر المساعدات الأميركية، بينما سيعمل هو في حال فوزه "على تحقيق السلام".
وعلى الأرجح، إذا ما فازت هاريس، فإنّها ستبقى لصيقة بسياسات بايدن حيال أوكرانيا وحلف شمال الأطلسي. وهي لم تنسَ التذكير في المناظرة مع المرشّح الجمهوري في 10 أيلول، بأنّ ترامب سيبدي تساهلاً حيال بوتين، إذا ما عاد إلى البيت الأبيض لولاية جديدة.
وعلى عكس زيلينسكي، يعمل نتنياهو على تعزيز فرص عودة ترامب، على رغم أنّ بايدن، آخر "رئيس صهيوني" في البيت الأبيض، هرع بكلّ قوة إلى إنقاذ إسرائيل بعد الإخفاق في 7 تشرين الأول، عسكرياً وديبلوماسياً. ورفض ممارسة أيّ نوع من أنواع الضغط عليها كي تقبل بوقف للنار في غزة وإنجاز صفقة لتبادل الأسرى على رغم مرور نحو عام على الحرب الإسرائيلية الدامية، وكذلك لم يحل بايدن دون شنّ إسرائيل حرباً جوية على لبنان.
بمعية ترامب، يعتقد نتنياهو أنّه سيكون قادراً على تشكيل الشرق الأوسط في مواجهة إيران وحلفائها في المنطقة، ويقضي نهائياً على حلّ الدولتين.
يعتقد 58 في المئة أنّ ترامب أقدر من هاريس على إنهاء حربي أوكرانيا وغزة
كررت هاريس أكثر من مرة قولها لمنتقديها "لست بايدن"، لكنّها أعلنت التزامها المطلق "حقّ إسرائيل في الدفاع عن النفس"، ورفضت فكرة فرض حظر على تصدير السلاح، كرافعة لحمل نتنياهو على القبول بوقف النار. وفي الوقت نفسه، تؤكّد المرشحة الديموقراطية على حقّ الفلسطينيين في تقرير المصير وأن يحيوا بكرامة على قدم المساواة مع الإسرائيليين. وهذه إشارة تستفز المسؤولين الإسرائيليين.
ترامب يؤكّد أنّ هاريس لن يكون في إمكانها وقف النار في غزة، ويذهب إلى حدّ التحذير من أنّ إسرائيل ستكون معرّضة للزوال في غضون عامين أو ثلاثة، إذا فازت المرشحة الديموقراطية. وقبل فترة، أكّد ترامب أنّه نظر إلى الخريطة، فلاحظ أنّ مساحة إسرائيل صغيرة جداً، وأنّه يفكّر في طريقة لتكبيرها قليلاً. وهذه إشارة مبطّنة إلى وعد بالموافقة على ضم الضفّة الغربية بما يتناسب مع رؤية نتنياهو.
وعن تأثيرات السياسة الخارجية على الانتخابات الأميركية، كتبت صحيفة "التايمز" البريطانية أنّ "إسرائيل وغزّة ولبنان... يتردّد صداها بقوة في الانتخابات الأميركية، بسبب أهمية الناخبين اليهود والناخبين العرب الأميركيين أو المسلمين، في التحالف الذي سيحتاج الديموقراطيون إلى حشده لتحقيق الفوز. ويتركّز عدد كافٍ من هؤلاء الناخبين في الولايات المتأرجحة وستظهر ولاءاتهم الحاسمة في تشرين الثاني".
ومع ذلك، فإنّ ترامب الذي لا يمكن التنبّؤ بسلوكه، قال في مؤتمر صحافي قبل أسبوع، إنه منفتح على التفاوض مع إيران من أجل التوصل إلى نسخة جديدة من الاتفاق النووي، الذي كان مزّقه بنفسه عام 2018، ولجأ إلى ممارسة سياسة "الضغوط القصوى" على طهران. وسبق أن أطلق ترامب وعداً مماثلاً خلال الحملة الرئاسية عام 2020.
إشارة ترامب حيال إيران تزامنت مع وجود الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. وكرّر الرئيس الإيراني الإصلاحي رغبة بلاده في استئناف المفاوضات مع الغرب في الملف النووي، آملاً في رفع العقوبات الأميركية التي تثقل كاهل الاقتصاد الإيراني.
وإيران حاضرة بقوّة في السجالات الأميركية الداخلية، من الملف النووي إلى الدعم الذي تقدّمه إلى "حزب الله" و"حماس" والحشد الشعبي العراقي والحوثيين، ناهيك بالعلاقات الإستراتيجية التي تقيمها مع روسيا والصين. ويتّهم الغرب طهران بتزويد موسكو بصواريخ باليستية في الفترة الأخيرة، بعد تزويدها بالمسيّرات.
وأظهر استطلاع أجراه معهد الشؤون العالمية في مجموعة أوراسيا، أنّ الناخبين في الولايات المتأرجحة الرئيسية يثقون بترامب أكثر، في ما يتعلق بالسياسة الخارجية. في حين أنّ غالبية الأميركيين، 53 في المئة، يثقون بهاريس على المستوى الوطني بشكل أكبر، لمتابعة سياسة خارجية تعود عليهم بالفائدة.
ويعتقد 58 في المئة أنّ ترامب أقدر من هاريس على إنهاء حربي أوكرانيا وغزة، وتتوقّع النسبة نفسها منه، أن يرد ترامب بشكل أكثر فعالية، إذا هاجمت الصين تايوان.