خلط توسّع الحرب وتطييرها الحدود مكانياً، وانفتاحها على أمد غير محدود زمنياً، جميع الأوراق الاقتصادية في بلد منهار مالياً. ومن المتوقّع أن تبدأ النتائج السلبية المتعلّقة بارتفاع معدّلات الفقر وانعدام الأمن الغذائي بالظهور تدريجياً، في موازاة ارتفاع أعداد النازحين.
بيّن التحليل المحدّث لـ"التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي" (IPC) للفترة الممتدّة من نيسان الماضي إلى أيلول الجاري، أنّ مليوناً و260 ألف قاطن في لبنان، يشكّلون 23 في المئة من مجمل السكان، يعانون من انعدام الأمن الغذائي. وقد ارتكز التحليل في أرقامه على ثلاث فرضيات أساسية:
الأولى: وصول عدد النازحين داخلياً إلى 140 ألفاً نزحوا في أيلول، صعوداً من 91 ألفاً في نيسان.
الثانية: استمرار وتيرة الاشتباكات المسلّحة بالحدة نفسها التي كانت عليها منذ اندلاع الحرب، وبقاء غالبية العمليات محصورة في محافظتي الجنوب والنبطية.
الثالثة: بقاء منطقة التأثير الرئيسة للنزاع ضمن دائرة نصف قطرها 7 كيلومترات على الحدود.
500 ألف نازح
مع توسع حدة القصف، سقطت الفرضيات الثلاث. فالعمليات العسكرية توسّعت على مساحة لبنان، ووتيرتها تصاعدت من متوسّطة إلى عنيفة جداً، و"أعداد النازحين ارتفعت إلى حوالى 500 ألف"، بحسب تصريح وزير الخارجية اللبناني عبد الله بو حبيب، على هامش مشاركته في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. ومن الطبيعي أن تنعكس هذه التحوّلات بشكل مباشر على ارتفاع أعداد السكان الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي في الأيام المقبلة. فأكثرية النازحين الجدد الذين صمدوا في قراهم ومناطقهم طوال عام مضى برغم المخاطر، يعتمدون في معيشتهم على مكانهم الجغرافي. فمنهم المزارع والمقاول وصاحب المؤسسة التجارية، الصناعية والخدماتية، والعامل، والفني والحرفي... "وقد تركنا كلّ ذلك وراءنا ونزحنا إلى المناطق الآمنة بعد اشتداد وتيرة القصف وتوسعها"، بحسب أحد النازحين. فـ "المال عوض الروح" كما يقال. "لكنّ المشكلة أنّ كل ما "حوّشناه" (جمعناه من مال) لمثل هذه الساعة، قد لا يكفي لاستئجار مسكن لارتفاع أسعار الإيجارات من جهة، وإصرار بعض أصحاب المنازل على تقاضي بين 3 و 6 أشهر مقدماً من جهة أخرى. ما عدا مصاريف المأكل والمشرب التي سندفعها من جديد، بعدما عجزنا عن حمل ما تموّناه في مناطقنا لخروجنا على عجل، ظهر الاثنين، من بيوتنا. وبالإضافة إلى هذه التكاليف يفرض علينا وضع تأمينات للحصول على الكهرباء من المولّدات، والمياه من الاشتراكات وغيرها".
واقع النازح في المثال أعلاه، ينسحب على آلاف النازحين، الذين كانوا أساساً يعانون الفقر وتراجع قدرتهم الشرائية مثلهم مثل 80 في المئة من سكان لبنان. وإن سلّمنا جدلاً باستقبال النازحين في مراكز الإيواء الجماعية، فإنّ القدرة الاستيعابية لهذه المراكز محدودة جداً، وهي لا تزال مقتصرة على 41 مدرسة موزّعة على كلّ لبنان. وتفتقر هذه المراكز إلى التجهيزات اللوجستية لاستقبال عائلات تضمّ النساء والأطفال وكبار السنّ. فلا فرش ولا أدوات مطبخ ولا مأكل ولا مشرب. وتعتمد الدولة في إعانة النازحين على برنامج الغذاء العالمي بشكل أساسي من أجل توزيع الحصص الغذائية، وعلى المبادرات الأهلية والبلديات في المناطق، التي هي في حاجة إلى من يدعمها.
تحرير سعر الخبز
في موازاة معاناة النازحين، أُعلن عن تحرير سعر ربطة الخبز بعدما وصل دعم الطحين إلى نهايته. وأوضحت وزارة الاقتصاد والتجارة، في بيان، أنّ سعراً جديداً لربطة الخبز سيُعمل به، بعدما شارفت عملية دعم القمح من خلال قرض البنك الدولي نهايتها. وقد حُدّد سعر ربطة الخبز التي تزن 840 غراماً بـ 65 ألف ليرة، على أن تسلّم إلى الموزعين بـ 62 ألفاً لتسليمها بـ 70 ألفاً الى المحالّ والسوبر ماركت، وهذه تبيعها إلى المستهلكين بـ 77 ألفاً. وبسبب فقدان ورقة الألف ليرة من الأسواق، سيتمّ تدوير سعر الربطة حكماً، إلى 80 ألفاً. وإذا سلّمنا جدلاً أنّ الأُسرة المؤلّفة من 5 أفراد بحاجة إلى ربطتي خبز، أقلّه في اليوم، فإنّ الكلفة الشهرية ستبلغ 5 ملايين ليرة على الخبز وحده، وهي تشكّل 28 في المئة من الحدّ الأدنى للأجور. وهذا رقم غير مسبوق لتأمين "العيش" كما يطلق على الخبز في مصر دلالةً على أهميّته.
إطالة فترة الحرب وتوسّعها لن يؤديا إلى ازدياد نسبة الفقر فحسب، بل أيضاً إلى ازدياد الفقراء فقراً...
الموادّ الغذائية متوفرة ولكن
وبرغم تأكيد وزارة الاقتصاد والطاقة توفّر كميات كافية من المواد الغذائية والمحروقات، فإنّ ارتفاع الطلب من أجل التخزين من جهة، وتأمين الحاجات من جهة أخرى، أدّيا إلى فقدان سلع عدة من الأسواق. ويأتي حليب الأطفال وبعض أنواع الأدوية في مقدمة هذه المواد. وقد طمأنت نقابتا مستوردي المواد الغذائية والسوبر ماركت إلى استقرار الأسعار، كون العرض كبيراً، وجميع السلع متوافرة بكمّيات كبيرة. وعقب اللقاء مع المدير العام لوزارة الاقتصاد والتجار الدكتور مجد أبو حيدر أصدرت النقابتان بيانا مشتركاً طمأنتا فيه الشعب اللبناني إلى أنّ مخزون المواد الغذائية يكفي مدة تراوح بين ثلاثة وأربعة أشهر، "مع العلم أنّ الاستيراد لا يزال مستمراً عبر الموانئ، وهذا من شأنه أن يحافظ على المخزون".
"ما دامت العمليات العسكرية محصورة بأهداف محددة من دون فرض حصار بحري وبري، فإنّ كميات الغذاء ستبقى متوفرة، والأمن الغذائي سيرتبط بالتوزيع الداخلي"، بحسب الزميلة الرئيسية، ومديرة برنامج الحماية الاجتماعية في مبادرة الإصلاح العربي فرح الشامي. وينقسم التوزيع شقين: الأول تجاري على المتاجر والمؤسسات. والثاني على النازحين ولا سيما منهم غير المقتدرين مادياً، الذين لجأوا إلى مراكز الإيواء الجماعية. و"في الحالة الثانية يتعيّن على المبادرات الإنسانية للجمعيات والمنظمات المحلّية والدولية التكفّل به"، بحسب الشامي. "إذ في ظلّ هذا الواقع، وإهمال بناء سياسات الحماية الاجتماعية، لا بد من المساعدات الفورية والطارئة من أجل سد فجوة الغذاء وإيصال المواد الأساسية بكمية كافية ونوعية جيدة إلى المحتاجين".
الأمن الغذائي في ظلّ سيناريو اتساع الحرب
أمّا في حال اتساع رقعة الحرب واستهدافها المرافق الحيوية، فإنّ ضمان توفر الغذاء والحد من ارتفاع أعداد الجائعين يصبحان أكثر صعوبة. "فالاستيراد البري دونه عقبات كثيرة مثل العقوبات المفروضة على سوريا وارتفاع الكلفة والمشكلات الأمنية"، بحسب الشامي، "فيما المطار لا يستعمل إلا لاستيراد بعض السلع الغذائية ذات الأحجام الصغيرة. وعليه، لا يبقى إلّا الاستيراد البحري عبر ثلاثة مرافئ رئيسة في صيدا بيروت وطرابلس، ويمكن أن يحلّ أحدها مكان الآخر لو تعرض مرفأ لضربة جوية". ومن النقاط السلبية التي تضيفها الشامي إلى الأمن الغذائي، عدم بناء إهراءات جديدة للحبوب مكان تلك التي هُدمت بانفجار المرفأ في العام 2020. وهو ما قلّص القدرة الاستيعابية للمواد الأساسية، ومنها القمح تحديداً.
يضاف إلى هذه العوامل، ارتفاع معدّلات الفقر في لبنان، وقدّرها البنك الدولي، بحسب آخر تقرير، بـ 40 في المئة فقراً نقدياً و70 في المئة فقراً متعدّد الأبعاد. وعليه، فإنّ إطالة فترة الحرب وتوسّعها لن يؤديا إلى ازدياد نسبة الفقر فحسب، بل أيضاً إلى ازدياد الفقراء فقراً.