عُقدت الدورة العادية السنوية للأمم المتحدة هذا العام، على خلفية حروب ساخنة في لبنان وغزة وأوكرانيا والسودان ونزاعات ذات وتيرة منخفضة في 56 منطقة في العالم، وهذا ما يدلّ، بما لا يدع مجالاً للشك، على إخفاق شبه تام للمنظمة الدولية، في الاضطلاع بالمهام التي أنشئت من أجلها عقب الحرب العالمية الثانية، وهي صون الأمن والسلام الدوليين.
يعاني مجلس الأمن الشلل والعجز في ما يتعلق بأوكرانيا والشرق الأوسط ومناطق أخرى. وهذا المجلس الذي أنيطت به مهمة حفظ الأمن العالمي تتنازعه إرادات الدول الخمس التي تتمتع بحق النقض "الفيتو".
في ظل هذه الإخفاقات في وقف الحروب وتمدّدها، تظهر الأمم المتحدة في الوقت الحاضر على شاكلة عصبة الأمم التي أنشئت عقب الحرب العالمية الأولى، من أجل حفظ الأمن والسلام الدوليين، لكنها لم تتمكّن من الحؤول دون اندلاع الحرب العالمية الثانية بعد 20 عاماً من تأسيسها. وعكس الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش حالة العجز بقوله في 12 أيلول الجاري إنّ "التحديات التي نواجهها تنبعث بأسرع من قدرتنا على حلّها".
صحيح أنّ الأمم المتحدة تبقى أكبر هيئة دولية تشرف على جهود الإغاثة للاجئين وضحايا الكوارث الطبيعية، بيد أنّ عجز مجلس الأمن عن المبادرة إلى التدخّل في بعض أكثر الصراعات عنفاً في العالم، يفقد المنظمة الدولية الكثير من شرعيتها وصلاحياتها، ويدعو الكثيرين إلى التساؤل عن جدواها.
وسعياً إلى إصلاح الخلل، جهد غوتيريش لإطلاق "مبادرة المستقبل"، التي تبنّتها الجمعية العامة بعد مفاوضات شاقّة الأسبوع الماضي. وترمي المبادرة إلى إصلاح مجلس الأمن مع خطط لتحسين فعاليته وتمثيله، بما في ذلك رفع الظلم التاريخي اللاحق بأفريقيا، من طريق منحها مقعدين دائمين في المجلس من دون التمتع بحق الفيتو، وكذلك الأمر بالنسبة إلى ألمانيا واليابان والهند ودول ناشئة أخرى، ترى أنّ وزنها السياسي والاقتصادي يؤهلها كي يكون لها كلمة أقوى في المجلس.
حالت ثلاثة فيتوات أميركية دون إصدار قرار بوقف النار في غزة...
ومع ذلك، ليس من المضمون أن تمرّ هذه الإصلاحات بسهولة، حتى ولو نادى بها علناً رؤساء الدول الخمس التي تتمتع بحق النقض. وما دامت الأجواء العدائية تتحكّم بالعلاقات الأميركية-الروسية، فإنّ من غير المرجّح التوصّل إلى توافق لتمرير الإصلاحات، التي تتكرّر الدعوة إليها منذ عقود. وقد لامس هذه الحقيقة مدير برنامج الأمم المتحدة لدى منظمة الأزمات الدولية ريتشارد غوان بقوله إنّ الحديث عن الإصلاح في الأمم المتحدة يدور في "حلقة مفرغة"، لأنّ هناك دولاً ستكون مهدّدة بفقدان تأثيرها، علاوة على العقبات الداخلية التي ستعترض أيّ اتفاق على الإصلاح.
حالت ثلاثة فيتوات أميركية دون إصدار قرار بوقف النار في غزة، التي أسفرت الحرب الإسرائيلية المدمّرة عليها منذ 11 شهراً إلى سقوط أكثر من 42 ألف فلسطيني معظمهم من المدنيين، وتدمير نحو 70 في المئة من منازل القطاع وتشريد سكّانه أكثر من مرة.
والقضية الفلسطينية أقدم قضية مطروحة على الأمم المتحدة منذ عام 1947، وصدرت عشرات القرارات التي بقيت حبراً على ورق. وها هم الفلسطينيون مهدّدون بنكبة جديدة من دون أن يكون للأمم المتحدة القدرة على وقف الاعتداءات الإسرائيلية، لا في غزّة ولا في الضفّة الغربية. وحتى وكالة "الأونروا" التي تقوم بالدور الإنساني صنّفتها إسرائيل "منظمة إرهابية" بحجج وذرائع لا أساس لها من الصحة.
وحالت الفيتوات الأميركية والروسية المتبادلة دون إيجاد حلّ للنزاع الأوكراني الذي مضى عليه أكثر من عامين ونصف العام، وتحوّل إلى حرب استنزاف تدمّر القدرات البشرية والمادية للبلدين، وتهدّد بالتحوّل إلى مواجهة مباشرة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي.
والسودان، بدوره، تهدّد حربه الأهلية بموت 8 ملايين إنسان جوعاً، من دون التوصل إلى اتفاق يلزم الجنرالين المتقاتلين عبد الفتاح البرهان ومحمد دقلو "حميدتي" وقف القتال وترك الحكم للمدنيين.
ولا يحرك مجلس الأمن ساكناً حيال النزاعات الداخلية المتجددة، في هاييتي ولا في الكونغو الديموقراطية ولا في دول الساحل جنوب الصحراء، ولا في ميانمار.
كلّ هذا يقود إلى الاستنتاج بأنّ الأمم المتحدة ودورها يتلاشيان تحت ثقل التنافس الدائر بلا رحمة بين الدول الكبرى. كما يقود إلى سؤال أكبر: هل من الممكن، بعدُ، ترميم المنظمة الدولية، أم أنّ العالم بات يحتاج إلى هيئة دولية أخرى للتعامل مع أزماته وتحدياته، لا يكون الكبار أوصياء عليها ولا يستطيعون تعطيل دورها؟